2-الإنسان ككائن ثقافي:
تشير الثقافة إلى كل ما أنتجه الإنسان ضمن مجتمع، مما يعني إختلافها باختلاف المجتمعات وتشمل أربعة دوائر حسب مالينوفسكي: الخيرات المادية(المسكن، المأكل،الملبس...)، التنظيم الإجتماعي(المؤسسات،القوانبن،الأعراف...)، التواصل(اللغة،الفكر،الفن...) وأخيرا القيم الروحية(الدين،المعتقدات،الأخلاق...)
بناءا على التعريف السابق، فالثقافة تشمل جميع نواحي الحياة الإنسانية، ولقد اكتشف الأنثربلوجيون أن صفات وسلوكات الإنسان تحمل أثر الثقافة سواء تعلق الأمر بالتصرف أو التفكير أو الإحساس بحيث يتعذر العثور على صفة لم يضف عليها الطابع الثقافي: يصدق ذلك على التكلم والمشي والأكل والنوم والتفكير...ولذلك يلاحظ أن شخصين من مجتمعين مختلفين لايضحكان أو يبكيان بنفس الطريقة ولنفس الأسباب وفي هذا السياق يستشهد إدغار موران بإبتسامة الياباني وقهقهة الإمريكي ! كذلك تختلف المأكولات التي يستطعمانها أو يتقززان منها وكذلك الشأن بالنسبة لمشاعر الغيرة الزوجية ومايتوقع من الرجل أو المرأة مشاعرا وسلوكا داخل نفس المجتمع، مما دفع سيمون دوبوفوار إلى حد القول بأن "المرأة لاتولد امرأة، بل تصير كذلك". حتى الجسم الذي يعد معطى طبيعيا، لايسلم بدوره من التكييف الإجتماعي كما يتجلى ذلك في الوشم والتجميل والختان والمحافظة على شكل القدمين وغيره...وهل هناك ماهو أكثر طبيعية من التنفس؟ ومع ذلك فهو سلوك يغلب عليه البعد الإجتماعي: فهناك طرق مهذبة للتنفس وأخرى ليست كذلك وهناك التنفس الموقوت لدى الهندي الذي يمارس اليوغا والتنفس المنقبض لدى المشارك في مراسيم الدفن...
3-اسنتاج وتركيب:
هناك إذن تفاعل وجدلية بين الطبيعي والثقافي، ولكن كيف نقدر مساهمة كل منهما؟ أحد السبل الممكنة للجواب هو معاينة إنسان حرم من تأثير الوسط الإجتماعي وهي بالضبط حالة "الأطفال المتوحشين" الذين لوحظت عند بعضهم في سن 8 أو 12 عدم القدرة على المشي على القدمين، اللامبالاة تجاه الروائح الكريهة ، الفزع من الضوء ليلا ، عدم القدرة على الإحساس بالفخر أو الخجل في المواقف التي تستدعي ذلك، عدم التعرف على الذات في المرآة، العجز عن إصدار أصوات غير الصيحات المتكررة... وقد تمكن المهتمون بهم بعد بضعة سنوات من استدراك بعض جوانب النقص لديهم وإحراز بعض التقدم في تربيتهم. صحيح أنه تقدم هزيل، ولكنه مستحيل لو تعلق الأمر بحيوان مهما بلغ من الذكاء.
نستطيع القول إذن أن الطبيعة تمد الإنسان بالإستعداد لأن يصير إنسانا أي بقابلية التعلم وتلقي التربية لتنتقل إنسانيته من القوة إلى الفعل. بيد أن هذا الإستعداد يضعف يتلاشى كلما تأخر تدخل الوسط الإجتماعي، وبعبارة أخرى، فالمعطيات البيولوجية الوراثية طبيعة أولى والمكتسبات الثقافية طبيعة ثانية تسثمر الأولى وتسمح لها بالظهور والإكتمال.وذلك ماتعبر عنه الخلاصة التالية لــ "إتيان مالصون" في كتابه "الأطفال المتوحشون":
"إن الأطفال الذين حرموا في سن جد مبكرة من كل إتصال إجتماعي (والذين ندعوهم بالمتوحشين) يبقون في أثناء عزلتهم في حالة من العوز يبدون معها وكأنهم حيوانات تافهة، بل دون مرتبة هؤلاء...لأن السلوك عند الإنسان لايدين للوراثة البيولوجية كما يدين لها الحيوان، وعوض الوراثة البيولوجية يحتاج الفرد إلى الإرث الثقافي، وبسبب هذا التحرر تجاه الطبيعة يظهر لانموذج إنساني واحد بل نماذج متعددة بتعدد الثقافات"
ملحق: الأطفال المتوحشون
ملحق: الأطفال المتوحشون
أطلق هذا الإسم على مجموعة من الأطفال عثر عليهم في أماكن متفرقة من العالم يعيشون إما بين الحيوانات أو في حالة من العزلة التامة عن البشر، وأشهرها حالاتان:
- طفل عثر عليه سنة 1912 في منطقة أفيرون بفرنسا، أطلق عليه إسم فيكتور لم يكن يصدر من الأصوات سوى صرخة واحدة متكررة، يصاب بالهلع كلما أشعل النور ليلا، ظل يحاول الهرب، لم يكن يبالي بالروائح الكريهة، ولم يكن قادرا على إظهار مشاعر الخجل أو الفخر في المواقف التي تستدعي ذلك، وأذا ماوقف أمام المرآة ظل يحوم حولها وخلفها بحثا عمن يختبئ وراءها.
وقد بذل المربون والعلماء المهتمون به وخصوصا الطبيب Itard مجهودات مضنية أسفرت بعد سبع سنوات على تمكن الطفل من قراءة وكتابة بضع كلمات، كما أصبح قادرا على التحكم في إنتباهه والتركيز كلما طلب منه ذلك.
أما الحالة الثانية فهي لطفلة إبنة ثماني سنوات عثر عليها في الهند سنة 1908 تعيش وسط جحر للذئاب، كان تصدر أصواتا شبيهة بأصواتهم ، قادرة على الإبصار ليلا، أما ركبتاها ومنكباها فقد كانتا متورمتين لأنها كانت تمشي على أربع.... وقد تطلب الأمر أيضا بضع سنوات لكي تمشي واقفة ولكي تتعلم بسط كفها وإستعمال يديها، وتعلم بضع كلمات وجمل نطقا وكتابة