إن
المشكل القائم في المحور الثاني من درس النظرية والتجربة يكمن في الاتفاق
حول تحديد دقيق لمفهوم العقلانية العلمية الذي هو عنوان المحور؛ فما لم
نعرف العنوان بدقة ونتفق حول دلالته فإننا سوف نختلف في تحديدنا لإشكال
المحور وأيضا في طريقة معالجته.
إن
طريقتي في معالجة أي محور في أي درس هي الانطلاق أولا من عنوان المحور
ومحاولة البحث عن دلالات المفاهيم المكونة له، وبعد ذلك أحاول أن أستخلص من
تلك السمات الدلالية إشكالا يعبر بدقة وصدق ما أمكن ذلك عن المستهدف في
المحور من الناحية الإشكالية، وإذا تم ضبط الإشكال فإن البحث عن الأطروحات
يكون أمرا سهلا.
باختصار
أقول: إنني أمفهم ثم بعد ذلك أأشكل لتأتي عملية البناء الإشكالي والمحاججة
فيما بعد. هذه هي خطتي باختصار، لكنها خطة تصادف صعوبات حينما تكون عملية
المفهمة صعبة بالنسبة لبعض عناوين المحاور، مثل محور العقلانية العلمية
هنا، مما يفتح باب التأويل والفهم على مصراعيه وتترتب عنه صياغات إشكالية
مختلفة تلصق بعنوان المحور من هذا الفريق أو ذاك، وهذا لعمري هو ما هو حاصل
بين الكتب المدرسية أو بين مختلف المدرسين في هذا المحور أو ذاك.
إذن
مربط الفرس هو: ما المقصود بمفهوم العقلانية ؟ وما المقصود بمفهوم
العلمية؟ وما المقصود بالتركيب الحاصل بينهما، أي العقلانية العلمية ؟؟
علينا
أن نتفق حول دلالة واضحة لمفهوم العقلانية العلمية لكي نستطيع أن نستخلص
منه الإشكال بدقة. ويجب أن يكون الإشكال بطبيعة الحال يكتسب مرجعية في
تاريخ الفلسفة، أي أنه إشكال حقيقي سبق تداوله من قبل فلاسفة العلم في مجال
الحقل الإبيستمولوجي.
سوف أقدم فهمي المتواضع لمفهوم العقلانية العلمية وللطريقة التي صغت بها إشكال هذا المحور؛
فيما
يخص مفهوم العقلانية رجعت إلى معجم جميل صليبا، الذي يستند بدوره في كثير
من المواضع على معجم أندري لالاند، فوجدت أن هذا المفهوم يتخذ الدلالات
التالية:
« العقلانية Rationalisme هي القول بأولية العقل، وتطلق على عدة معان:
أ- الأول هو القول إن كل موجود فله علة في وجوده بحيث لا يحدث في العالم شيء إلا وله مرجع معقول.
ب-
والثاني هو القول إن المعرفة تنشأ عن المبادئ العقلية القبلية والضرورية
لا عن التجارب الحسية …والمذهب العقلي بهذا المعنى مقابل للمذهب التجريبي
الذي يزعم أن كل ما في العقل فهو متولد من الحس والتجربة.
ت- والثالث هو القول إن وجود العقل شرط في إمكان التجربة …
ث- والرابع هو الإيمان بالعقل وبقدرته على إدراك الحقيقة …
ج- والعقلانية عند بعض علماء الدين هي القول إن العقائد الإيمانية مطابقة لأحكام العقل … ».
وإذا تأملنا مختلف هذه الدلالات تبين لنا:
- أن العقلانية تدل على ذلك المذهب الذي يمنح الأولوية للعقل في عملية إنتاج المعرفة.
- أنها ترتبط بمفهوم المعقولية الذي يدل أن الوجود وأحداثه هي أمور قابلة للتعقل وللفهم العقلي.
-
أنه لا يمكن الحديث عن العقلانية إلا في مقابل التجريبية، وأنه لا يمكن
الحديث عن التقابل بينهما دون الحديث عن إشكال المعرفة بين العقل والتجربة،
أي عن إشكال منهجي ميتودولوجي يتعلق بتأسيس المعرفة البشرية ومناهج البحث
عنها.
-
أن العقلانية هي نزعة فكرية تمنح للعقل الدور الأول والفعال في عملية
تنظيم المعطيات التجريبية، وأيضا في البروتوكولات التي يخضع لها العمل
التجريبي نفسه.
- أن العقلانية هي أيضا مذهب فكري قائل بقدرة العقل على بلوغ الحقيقة وعلى فهم العالم فهما عقليا خالصا.
-
أن العقلانية كنزعة فكرية تتواجد في جميع المجالات بما في ذلك حقل الثقافة
الدينية، حيث تدل هناك على المذهب القائل بأن المعتقدات و المبادئ
الإيمانية قابلة للتعقل بل ومطابقة لمبادئ العقل، ولعل المذهب الاعتزالي
يمثل هذه النوع من العقلانية التي ترتبط بأمور العقيدة والدين.
وانطلاقا من هذه الدلالة الأخيرة، يمكن الحديث أيضا عن عقلانية في مجال العلم وهي التي يمكن نعتها بالعقلانية العلمية.
ومفهوم العلمية هنا يحيل طبعا إلى ما يسمى بالعلوم الدقيقة أو الحقة كالرياضيات والفيزياء والبيولوجية وغيرها.
هكذا
يمكن الحديث عن العقلانية العلمية باعتبارها ذلك المذهب الموجود في العلم
والذي يمنح الأولوية للعقل في عملية إنتاج المعرفة العلمية، ويقول أصحابه
بقدرة العقل على فهم العالم واستكشاف القوانين التي تحكمه.
من هنا يمكن أن:
-
نتساءل عن دور العقل في بناء المعرفة العلمية وإنتاج النظريات. وهو الأمر
الذي سيحتم الحديث عن دور التجربة أيضا في عملية البناء هاته، مادام أنه لا
يمكن الحديث عن أحدهما بمعزل عن الآخر.
-
نتساءل عن خصائص العقلانية العلمية بمقارنتها على الأقل بالعقلانية
الفلسفية الكلاسيكية التي مثلها فلاسفة أمثال أفلاطون وديكارت واسبينوزا
وكانط وهيجل.
هكذا يمكن أن نطرح الأسئلة التالية لصياغة إشكال المحور:
ما
هي خصائص العقلانية العلمية؟ ما الذي يميزها عن العقلانية الفلسفية
الكلاسيكية؟ ما هو دور العقل في بناء المعرفة العلمية؟ وهل النظرية العلمية
هي نتاج خالص للعقل أم أن للتجربة دور في عملية الإنتاج هاته؟
وإذا كان كل طرح إشكالي لا بد أن نتصور عملية بناء مسبقة له، فإنني أقترح المقاربة التالية من أجل القيام بعملية البناء الإشكالي:
سنقدم
بشكل إجمالي ومختصر خصائص العقلانية الفلسفية الكلاسيكية، باعتبارها
عقلانية منغلقة تؤمن بمبادئ عقلية قبلية أو فطرية أو مطلقة تعتقد أنه
بإمكاننا انطلاقا منها أن نتحكم في معطيات الواقع وننتج المعرفة …
ثم
سنقابلها بعد ذلك بعقلانية علمية معاصرة تتميز بخصائص من قبيل: الانفتاح
على مستجدات العلم، المراجعة الدائمة لمبادئ العقل، الجهوية أي وجود
عقلانيات بدل عقلانية واحدة كل منها تختص بمجال علمي معين، التطبيق على
الواقع أي ما سماه باشلار بالعقلانية المطبقة التي يكون بموجبها العقل
منفتحا بشكل دائم على مادة معرفته، كما يمكن البحث عن خصائص أخرى للعقلانية
العلمية المعاصرة عند هذا الابيستيمولوجي أو ذاك؛ فبوبر يجعلها عقلانية
نقدية، ولكن بمعنى خاص للنقد يختلف عما قال به كانط، كما أن إنشتين يقول
أنها عقلانية رياضية ومبدعة، ويمكن أن نبحث عن نعوت أخرى عند بوانكري أو
كوهن أو غيرهما.
بعد
تحديد هذا التقابل بين العقلانية الفلسفية والعلمية، يمكن أن نمر لمعالجة
الإشكال الابيستيمولوجي المتعلق بدور كل من العقل والتجربة في عملية بناء
المعرفة العلمية. ويمكن أن يتم ذلك بتقديم ثلاثة مواقف رئيسية:
1- الموقف العقلاني الخالص: ويمكن أن نمثل له بإلبير إنشتين الذي يزعم أن الفكر الخالص قادر على فهم الواقع كما كان يحلم بذلك القدماء …
2- الموقف الوضعي التجريبي:
ويمكن أن نمثل له برايشنباخ الذي يرفض أن يكون العقل قادرا لوحده على
إنتاج معرفة بالواقع الفيزيائي. ولذلك فهو ينتقد النزعة العقلانية الرياضية
التي تعتقد أن للعقل قوة خاصة به يستطيع بواسطتها اكتشاف قوانين العالم
الفيزيائي، ويرى أنها أقرب إلى النزعة الصوفية مادام أن القاسم المشترك
بينهما هو استغناؤهما عن الملاحظة التجريبية، وانطلاقهما من رؤية حدسية
وفوق حسية في بنائهما للمعرفة …
3- الموقف التركيبي:
الذي يمكن اعتبار باشلار أحد ممثليه؛ بحيث يؤكد على أهمية الحوار الجدلي
بين العقل والتجربة في بناء المعرفة العلمية. فالفيزياء المعاصرة تتأسس في
نظره على يقين مزدوج: الأول يتمثل في أن الواقع العلمي ليس واقعا معطى عن
طريق الحواس، بل هو واقع مبني بناءا عقليا ورياضيا، وهو ما يعني أن الواقع
يوجد في قبضة العقل. أما اليقين الثاني فيتمثل في القول بأن بناءات العقل
وبراهينه لا تتم بمعزل عن الاختبارات والتجارب العلمية. هكذا انتقد باشلار
النزعة الاختبارية الساذجة التي اعتقدت أن التجربة هي مصدر بناء النظرية
العلمية، كما انتقد النزعة العقلانية المغلقة التي تصورت أن العقل قادر
لوحده على بناء المعرفة بشكل منعزل عن الواقع. وعلى العكس من ذلك اعتبر
باشلار أن بناء المعرفة العلمية المعاصرة يتم في إطار حوار متكامل بين
العقل والتجربة. هكذا فالعقل العلمي المعاصر مشروط بطبيعة الموضوعات التي
يريد معرفتها، فهو ليس عقلا منغلقا ثابتا بل منفتحا على الواقع العلمي
الجديد الذي يتناوله …
وفي
الأخير أود أن أشير إلى أنه يمكن تناول التساؤل المتعلق بخصائص العقلانية
العلمية في إطار الحديث عن تصور فلاسفة العلم لدور كل من العقل والتجربة في
بناء النظرية العلمية، لأن إنشتين أو رايشنباخ أو باشلار في معرض تقديم
تصورهم لعملية إنتاج المعرفة العلمية فهم يقدمون لنا في الآن نفسه خصائص
العقلانية العلمية؛ فيقول عنها إنشتين مثلا أنها رياضية مبدعة –المبدأ
الخلاق في الرياضيات-، ويقول عنها باشلار أنها منفتحة ومطبقة وجدلية …،
بينما ينعت رايشنباخ المعرفة العلمية بأنها معقولة وليست عقلانية؛ فهو ينفي
عنها صفة العقلانية التي تدل عنده على ذلك المذهب الفلسفي الذي يعتبر
العقل وحده مصدرا للمعرفة المتعلقة بالواقع دونما حاجة إلى الملاحظة
والتجربة، وينعتها بالمعقولة لأنها تستخدم العقل مطبقا على المادة
التجريبية التي تمدنا بها الملاحظة العلمية.
كما
أود أن أشير إلى أننا سنعثر على تداخل والتقاء شديدين بين ما سيتم تقديمه
في هذا المحور المتعلق بالعقلانية العلمية والمحور الموالي المتعلق بمعيار
النظرية العلمية؛ حيث سيتم معالجة إشكال المعيار هذا بتقديم ثلاثة مواقف
رئيسية:
-
الأول هو الموقف التجريبي الذي يمثله دوهايم، والذي يقدم معيار التحقق
التجريبي كمعيار لصلاحية النظرية العلمية، حيث « إن الاتفاق مع التجربة هو
الذي يشكل بالنسبة للنظرية الفيزيائية المعيار الوحيد للحقيقة ».
- والثاني هو الموقف العقلاني الذي يعتبر إنشتين أحد ممثليه، والذي يقدم الانسجام المنطقي أو التماسك العقلي كمعيار لصحة النظرية …
- والثالث هو موقف كارل بوبر المتمثل في القابلية للتكذيب …
هناك
تداخل بين المحورين لأن عملية بناء المعرفة العلمية لا تنفصل عن معيار
صحتها؛ فالذين سيمنحون الأولوية للعقل في عملية البناء سيجعلونه هو معيار
الصحة أيضا، وقل الأمر نفسه بالنسبة للذين ينحازون للتجربة إذ سيجعلونها
المعيار الوحيد للحقيقة كما فعل دوهايم. أما بوبر فإن معيار القابلية
للتكذيب عنده لا يخرج عن معيار القابلية للتحقق التجريبي؛ حيث يرى بوبر أنه
يمكن أن نطلق على معيار القابلية للتكذيب أيضا معيار القابلية للاختبار،
لأن قابلية النظرية للتكذيب معناه أنه يمكن اختبارها بشكل دائم من أجل
تجاوز العيوب الكامنة فيها. وهذا يدل على انفتاح النظرية العلمية ونسبيتها.
أما النظرية التي تدعي أنها يقينية وقطعية ولا عيوب فيها، فهي مبدئيا غير
قابلة للاختبار. وهذا أيضا هو الذي يميز النظريات العلمية عن أشباه
النظريات العلمية كالماركسية أو التحليل النفسي مثلا.
إن
الطابع التركيبي والشمولي للنظرية يجعل من المستحيل تقريبا التحقق من
صدقها أو كذبها بواسطة التجربة. لذلك اقترح بوبر القابلية للتكذيب معيارا
لعلمية نظرية ما، وإن لم تكذب فعلا، أي أن تتضمن في منطوقها إمكانية البحث
عن وقائع تجريبية تكذبها.
إذن يمكن أن ندمج بين المحورين في إطار إخراج ما، باعتبارهما يلتقيان في العمق.
لكن
وجهة نظري أن نبقي على المحورين كما هما، لكي نفسح المجال في المحور
الثاني للحديث عن خصائص العقلانية العلمية، مع تنبيه التلاميذ إلى
التقاطعات الموجودة بينهما، خصوصا وأن وجود مثل هذا التقاطع هو أمر عادي
وموجود بين الكثير من محاور الدروس.
منقول