Admin Admin
عدد المساهمات : 34923 نقاط : 160639 السٌّمعَة : 1074 تاريخ التسجيل : 14/05/2009 الموقع : http://www.autoformer.net/
| موضوع: حوار فصلي من أجل تحديد إشكال قيمة الشخص السبت أغسطس 20 2011, 14:59 | |
| حوار فصلي من أجل تحديد إشكال قيمة الشخص نهضت من مكتبي ووقفت أمام السبورة كإيذان بابتداء حصة من حصص خريف 2010، وأشرت إلى التلاميذ بأننا سننتقل إلى المحور الثاني من محور درس الشخص، وهو تحت عنوان: “الشخص بوصفه قيمة”. كتبت عنوان المحور على السبورة، ثم توجهت إلى التلاميذ قائلا:- ما هو أول فعل ينبغي القيام به حينما نشرع في إنجاز محور درس ما ؟فقال أحد التلاميذ: - نطرح إشكال المحور.قلت لزملائه:- هل توافقونه الرأي ؟قالت تلميذة:- نعم؛ لا بد من تحديد إشكال المحور قبل التطرق إلى الأطروحات الفلسفية التي تجيب عنه.قلت:- صحيح !! ولكن هل نطرح الإشكال مباشرة دون مقدمات ؟ وبمعنى آخر كيف يتأتى لنا طرح إشكال هذا المحور المتعلق بقيمة الشخص ؟ساد هدوء نسبي لثوان من الزمن، أنهاه أحد التلاميذ بقوله:- علينا أن نعرف أولا ما معنى قيمة الشخص ؟ قبل أن نطرح الإشكال ؟فقلت:- هذا صحيح؛ فتحديد مفاهيم عنوان المحور، ثم الربط بينها، هي من بين الاستراتيجيات التي يمكن اعتمادها من أجل صياغة إشكال المحور. وإذا لاحظتم فقد اعتمدنا في المحور السابق المتعلق بهوية الشخص على وضعية مشكلة، تتعلق بذلك الشخص الذي كان مجرما ثم أصبح صالحا ..، انطلقنا منها لتحديد إشكال هوية الشخص. أما الآن فسنعمل على مفهمة عنوان المحور الثاني، أي تحديد المفاهيم والعلاقات بينها، من أجل صياغة إشكال قيمة الشخص.ثم أضفت:- بالنسبة لمفهوم الشخص، سبق لنا أن تعرفنا عليه. فما المقصود بالشخص ؟قل تلميذ:- “الشخص هو الذات التي تنسب إليها مسؤولية أفعالها”.وقال آخر:- الشخص هو كائن عاقل وواع ومسؤول قانونيا وأخلاقيا.فقلت:- نعم هذا صحيح. وقد رأينا تعريفا للشخص انطلاقا من معجم أندري لالاند، ماذا جاء فيه ؟فأخذ التلاميذ يهمهمون ويبحث بعضهم في دفاترهم، مما يبدو معه أنهم لم يتذكروا التعريف جيدا.فقلت لأحدهم:- اقرأ ما هو مكتوب لديك في الدفتر حل تعريف الشخص في معجم أندري لالاند الفلسفي.فأخذ يقرأ ما يلي:يدل مفهوم الشخص حسب معجم لالاند على “الشخص الطبيعي من حيث هو جسم ومظهر، وعلى الشخص المعنوي من حيث هو ذات واعية، وعلى الشخص القانوني من حيث أن له حقوقا وواجبات.”فقلت: - حسنا، لنتأمل هذا التعريف. ماذا نجد فيه بالضبط ؟أجابت تلميذة:- نجد فيه ثلاثة تعاريف للشخص؛ الشخص الطبيعي والشخص المعنوي والشخص القانوني.فقلت:- نعم؛ إننا بصدد ثلاثة مكونات للشخص الواحد؛ المكون الطبيعي والمكون الواعي والمكون القانوني. فما المقصود بهذه المكونات ؟قالت تلميذة:- إن المكون الأول هو المكون الطبيعي البيولوجي، الذي يشير إلى الجانب الجسدي والغريزي لدى الإنسان.فقاطعتها قائلا:- إذن فهذا الجانب الجسدي والغريزي يشترك فيه الإنسان مع الحيوان.قالت التلميذة:- نعمفقلت للجميع:- فهل يمكن إذن أن نبحث عن قيمة للشخص في هذا الجانب أو المكون؛ أقصد الشخص من حيث هو جسم ومظهر ؟فقال أحد التلميذ:- لا يمكن الحديث عن قيمة للشخص على مستوى الجسد، لأنه يحتوي على غرائز ولا يميزه كثيرا عن الحيوانات.فقلت:- ربما هذا صحيح !! ولكن هل يمكن انطلاقا من ذلك القول بأن الجسد والمظاهر المرتبطة به، لا دور لها في تحديد قيمة الشخص ؟ ألا يمكن أن تلعب مثلا جمالية الشكل والمظهر وقوة البدن في منح الإنسان قيمة ما داخل جماعته ؟ ألا يعجب الناس في الكثير من الأحيان بالشخص إذا كان جميل المنظر والهندام وقوي البنية ؟ فقالت تلميذة:- نعم إن الجميل ليس كالقبيح، والنظيف ليس كالمتسخ، والسوي الخلقة ليس كالذي به عاهة.فقلت:- نعم، إن المرأة الجميلة في الحفلات والمناسبات السارة تحظى باهتمام الآخرين، وتكون لها على أية حال قيمة ما بين الحاضرين. كما أن القوي البدن والمفتول العضلات يكتسب قيمة لدى أقرنائه في السجن أو أثناء اللعب مثلا ؟فتدخل أحد التلاميذ قائلا:- لكن يا أستاذ؛ قد يكون شخص ما نحيف البنية أو ذميم الخلقة ومع ذلك قد تكون له قيمة بين الناس إذا كان ذا أخلاق حسنة أو كان ذا عقل راجح أو علم واسع.فقلت:- هذا صحيح؛ والأمر ينطبق مثلا على سقراط؛ فقد كان ذميم الخلقة ومع ذلك فقد اكتسب احترام مواطنيه والأجيال بعد ذلك، وهذا بفضل أخلاقه وقدراته الفكرية والعقلية.واستطردت:- ثم لنتأمل مثال المرأة الجميلة في الحفلة؛ فأناقتها وجمال جسدها قد جعل الناس يعجبون بها، لكن هذا لا يعني أنهم يحترمونها. فقيمتها المرتبطة بجمال جسدها ومظهرها ليست كقيمتها المرتبطة بأخلاقها وعقلها مثلا. فلو كانت المرأة جميلة ومثقفة ومتخلقة لكانت قيمتها عند الناس أفضل من امرأة جميلة ولكن جاهلة وناقصة في خلقها. فالجمال الجسدي وحده لا يمنح للشخص قيمة بين الناس، والمظهر لا يكفي لوحده لتحديد هذه القيمة، بل لا بد من أخذ الجوانب الباطنية والجوهرية بعين الاعتبار؛ كالأخلاق والعلم والمواهب الفنية وغيرها مما قد يمتاز به الشخص.فتدخل أحد التلاميذ قائلا: - إذن فالإعجاب ليس هو الاحترام، وقيمة الشخص ترتبط بالاحترام الذي يخص الجانب العقلي والأخلاقي، وليس بالإعجاب الذي قد يكون مرتبطا فقط بجمال الشخص أو ذكائه.فقلت:- يبدو هذا صحيحا. لكن مع ذلك يصعب أن نلغي نهائيا دور الجسد وجماله ورمزيته … في تحديد قيمة الشخص. وهنا ذكرت التلاميذ بأنه سبق في امتحان وطني أن وجد التلاميذ أنفسهم أمام موضوع اختباري من جملة ما يثير: علاقة قيمة الشخص بالجسد. وقد كان الأمر يتعلق بسؤال إشكالي مفتوح جاء فيه ما يلي:هل تنحصر هوية الشخص وقيمته في الجسد ؟وقد ورد هذا السؤال ضمن مواضيع الامتحان الوطني الموحد للبكالوريا، الدورة العادية 2009، الشعب العلمية.بعد هذا قلت للتلاميذ:- وإذا عدنا أيضا إلى مثال الشخص القوي البنية داخل السجن، فسنجد أن رفاقه يخافونه وليس بالضرورة يحترمونه. مما يبدو معه أيضا أن الخوف ليس هو الاحترام، وأن القيمة المرتبطة بالإحساس الأول ليست في مستوى القيمة المرتبطة بالإحساس الثاني. وكل هذا يدفعنا إلى التساؤل بإلحاح: أين تكمن قيمة الشخص بالضبط ؟ أين نعثر عليها لديه ؟ هل في الجانب الظاهري أم الباطني ؟ هل في الجانب الجسدي الغريزي أم في الجانب العقلي الأخلاقي ؟وقد جعلنا هذا نعود من جديد إلى تعريف أندري لالاند للشخص الذي حددناه من قبل كما يلي: “الشخص الطبيعي من حيث هو جسم ومظهر، وعلى الشخص المعنوي من حيث هو ذات واعية، وعلى الشخص القانوني من حيث أن له حقوقا وواجبات.”وقلت للتلاميذ:- إذا كان المكون الأول للشخص يتعلق بالكائن البيولوجي الطبيعي، أي بجانب الجسد والغرائز، فبماذا يتعلق الجانبين الآخرين بالضبط ؟فقال أحد التلميذ:- إن المكون الثاني يتعلق بخاصية الوعي؛ أي باعتبار الشخص كائنا عاقلا وواعيا. أما المكون الثاني فيشير إلى البعد القانوني لدى الشخص؛ أي باعتباره مسؤولا أمام الآخرين انطلاقا مما يجمعه بهم من قوانين وقواعد تحكم العلاقات داخل المجتمع.فقلت:- جيد. لكن دعنا نتساءل: هل من علاقة إذن بين قيمة الشخص ووعيه ؟ أو بين قيمته ومسؤوليته القانونية أو الأخلاقية أمام الآخرين ؟فقالت تلميذة:- إن الوعي هو الذي يمنح للشخص قيمة.فسألتها:- لكن أي نوع أو شكل من الوعي هو الذي يمنحه هذه القيمة ؟فأجابت:- الوعي الأخلاقي السامي والرفيع.فقلت:- إذن، فقد يكون وعي الشخص منحطا أو رفيعا؛ وفي الحالة الأولى قد يفقد قيمته كشخص، أما في الحالة الثانية فهو يحافظ عليها. فالوعي الأخلاقي إذن له دور في تحديد قيمة الشخص.فرد غالبية التلاميذ بالإيجاب.وهنا توجهت لهم بالتساؤل:- هل يمكن الحديث عن الأخلاق في غياب وجود الغير أو الآخرين ؟فأجابت إحدى التلميذات:- لا يمكن ذلك.فقلت:- إن السلوك الأخلاقي يجسد المبادئ التي يحتوي عليها وعي الشخص الأخلاقي من جهة، ويتوجه هذا السلوك نحو الآخرين من جهة أخرى. ولذلك إذا كان الوعي الأخلاقي السليم هو ما يمنح للشخص قيمة، فإنه يبدو أن هذه القيمة لا يمكن الحديث عنها إلا في علاقة الشخص الأخلاقية بالغير.ثم سألت الجميع:- لكن هل يعني ذلك أن حكم الآخرين على الشخص هو ما يمنحه قيمة أم أن قيمته مستقلة عن هذا الحكم ؟ وبمعنى آخر: هل الآخرون هم الذين يمنحون للشخص قيمته أم أن له قيمة في ذاته ؟فقال أحد التلاميذ:- يبدو أن الآخرين هم الذين يمنحون للشخص قيمة حينما يحكمون عليه انطلاقا من المبادئ الأخلاقية التي تؤمن بها الجماعة.فتوجهت إليه بالسؤال:- لكن، ألا يمكن أن تختلف القوانين والمبادئ الأخلاقية من جماعة بشرية إلى أخرى.فأجاب:- هذا ممكن.فقلت:- وفي هذه الحالة، ألا يمكن أن تكون للشخص قيمة لدى جماعة ما ويفقدها لدى جماعة أخرى، لأن سلوكه موافق للقواعد الأخلاقية السائد في الجماعة الأولى ومخالف لتلك السائدة في الجماعة الثانية ؟فقال أحد التلاميذ:- هذا صحيح إذا كانت الأخلاق نسبية وتختلف من مجتمع لآخر.أما إذا كانت الأخلاق مطلقة وهي نفسها الموجودة لدى جميع المجتمعات، فإن قيمة الشخص لن يتغير الحكم عليها، وستكون واحدة وثابتة ؟فقلت:- يبدو أن الحسم في قيمة الشخص الأخلاقية يتطلب الحسم في إشكال الأخلاق بين المطلق والنسبي. وهذا ما لا يمكن أن نخوض فيه الآن. وحسبنا أن نفحص ما يلي:- إذا كان التصرف الأخلاقي المطابق للعقل الأخلاقي للجماعة هو الذي من شأنه أن يحدد قيمة الشخص، فهل معنى ذلك أن قيمة الشخص ترتبط بحكم الآخرين عليه من الناحية الأخلاقية ؟ أليس للشخص قيمة مفترضة فيه بغض النظر عن نظرة الآخرين وحكمهم عليه ؟فظل التلاميذ صامتين، لأن الإشكال يبدو عويصا ويتجاوز ما يملكونه من قدرات عقلية وتفكيرية.وهنا بادرت بالقول:- حينما يتصرف الشخص بسلوك مناف للأخلاق، فهو بهذا يفقد قيمته كشخص أخلاقي. لكن ماذا عن الكائنات البشرية التي لا وعي أخلاقي لها أصلا، مثل الرضع أو الأطفال إلى سن معينة أو المصابين بعاهات عقلية أو الذين دخلوا حالات الغيبوبة ..الخ. أليس هؤلاء وأمثالهم قد فقدوا أو لا يتوفرون أصلا على عقل أخلاقي يمكنهم من التصرف بكيفية أخلاقي ؟فقالت تلميذة:- بالفعل، فهذه الأصناف من الناس لا يكون سلوكها مطابقا للقواعد الأخلاقية بالضرورة ؟فقلت لها:- فهل يعني ذلك أنها ليست أشخاصا وأنها مفتقدة لأية قيمة ككائنات بشرية ؟ وهل يمكن أن ننزع عنها الاحترام ونعاملها كالحيوانات ؟ فقالت التلميذة:- لا يمكن طبعا.فقلت:- إذن يفترض أن تلك الكائنات البشرية المفتقدة للعقل الأخلاقي، تمتلك قيمة ما تميزها عن الحيوانات وأشياء الطبيعة. ولذلك علينا أن نبحث عن خاصية توجد لديها، وربما عند جميع الناس، هي التي تمنحها قيمة الشخص.فقال أحد التلاميذ:- فما هي إذن هذه الخاصية التي توجد لدى الكائنات البشرية وتجعلها أشخاصا وتمتلك قيمة ؟فأجبته:- سؤالك مشروع ويطرح نفسه بقوة. وهو يدفعنا إلى طرح تساؤل آخر: هل توجد خاصية ثابتة ومشتركة لدى جميع الناس هي التي تميزهم عما عداهم من الكائنات والأشياء، وتمنحهم قيمة ثابتة ومطلقة وغير قابلة للمساس ؟ أو ليست قيمة الأشخاص تختلف عن قيمة الحيوانات والأشياء ؟فأجاب تلميذ:- نعم، إن للشخص قيمة مطلقة في ذاته، بينما قيمة الأشياء نسبية. فالشخص غاية في ذاته بينما الأشياء هي مجرد وسائل يستخدمها الإنسان لصالحه.فقلت :- إذن؛ يبدو من كلامك أن قيمة الشخص ثابتة وأصيلة فيه، بينما قيمة الأشياء تتحدد انطلاقا من نسبتها إلى الإنسان، وكيفية استعماله لها.فقال:- نعم.فقلت له ولزملائه:- إن تحديدنا لمفهوم الشخص وإثارتنا لهذا النقاش المتعلق بقيمته، جعلنا نطرح مجموعة من التساؤلات التي يتعلق بعضها بقيمة الشخص بين جسده ووعيه؟ وقيمته بين ظاهره وباطنه ؟ وقيمته بين ثبات الأخلاق ونسبيتها؟ وقيمته بين امتلاكه لوعي أخلاقي أو عدم امتلاكه له؟ وقيمته في علاقتها بحكم الغير عليه ؟ وكل هذا جعلنا نبحث عن الخاصية أو الخصائص التي من شأنها أن تمنح للشخص قيمة ؟ثم استطردت:- دعونا الآن، لصياغة إشكال قيمة الشخص، نبحث في دلالة ومعنى مفهوم قيمة، لكي ننطلق منها ونحدد إشكال هذا المحور من درس الشخص. فما معنى مفهوم قيمة ؟أجاب أحد التلاميذ:- القيمة هي المكانة التي يحتلها الشخص في المجتمع.فقلت له:- قد يكون هذا صحيحا. لكن ما الذي يجعل للشخص قيمة أو مكانة داخل المجتمع؟فأجاب التلميذ:- علمه أو ثروته أو أخلاقه.وقال آخر:- وأيضا مواهبه الفنية أو الكروية أو التقنية.فقلت لهما ولجميع التلاميذ:- وأيضا مظهره ولباسه وجماله الجسدي ..الخ. وهذا يدفعنا إلى التساؤل من جديد: هل يمكن اعتبار مظاهر الجسد والثروة و الذكاء والمواهب المختلفة محددا لقيمة الشخص؟ ألا يفترض أن هذه العناصر مختلفة حسب الأفراد، وبالتالي ستجعل قيمة بعضهم أكثر من الآخر؟ أولا توجد خاصية مشتركة بين الناس هي التي تميزهم عما عداهم، وتمنحهم قيمة الأشخاص؟ أليست للشخص قيمة بغض النظر عن مظهره الجسدي أو مكانته الاجتماعية أو ذكائه ومواهبه؟ وإذا كان الأمر كذلك، فأين تكمن هذه الخاصية ؟وهنا دعوت التلاميذ للتأمل في هذه المعاني التي يتخذها مفهوم “قيمة” في المعجم الفلسفي لأندري لالاند، بعد أن كتبتها في السبورة وسجلوها في دفاترهم: يدل مفهوم القيمة في معجم لالاند على المعاني التالية: أ- المعنى الذاتي “القيمة خاصية ثابتة للأشياء التي يفضلها أو يرغب فيها شخص أو مجموعة من الأشخاص المحددين. وفي هذا المعنى تستعمل عبارة “القيمة الاستعمالية“؛ ب - المعنى الموضوعي “القيمة خاصية ثابتة للأشياء التي تستحق التفضيل ..”؛ ج - المعنى الموضوعي الافتراضي “القيمة خاصية ثابتة للأشياء باعتبارها تلبي حاجة لغاية ما“. وبعد أن قرأ أحد التلاميذ هذه المعان، قلت للجميع:- ما هي العبارة المشتركة بين كل هذه التعريفات؟فقال أحدهم:- عبارة: “القيمة خاصية ثابتة للأشياء“.فقلت:- إذن يبدو من هذه التعريفات أن مفهوم القيمة يفترض مفهوم الثبات، أي أن قيمة الشيء هي خاصية ثابتة فيه. وإذا طبقنا ذلك على الشخص، فستكون قيمته كامنة في خاصية ثابتة فيه. ولهذا ما هو الإشكال الذي يمكن طرحه انطلاقا من هذا الاستنتاج؟فأجاب أحد التلاميذ:- ما هي الخاصية الثابتة في الشخص، والتي تمنح له قيمة في ذاته ؟وقال آخر:- هل للشخص قيمة ثابتة أم متغيرة؟فقلت للجميع:- إذا افترضنا إذن أن هناك خاصية ثابتة يشترك فيها الأشخاص، وهي التي تميزهم عن غيرهم من الموجودات، فإنه يمكن الحديث عن قيمة أصيلة وثابتة ومطلقة لدى الشخص. أما إذا لم يكن هناك وجود لمثل هذه الخاصية، فإن قيمة الشخص ستتحدد انطلاقا من خصائص أو معايير قد يتوفر عليها في لحظة ويفتقدها في لحظة أو لحظات أخرى؟ثم قلت لهم:- هناك تمييز في معجم لالاند بين معنى ذاتي ومعنى موضوعي لمفهوم القيمة، أين يكمن الفرق بين المعنيين؟فقال أحدهم:- المعنى الذاتي نسبة إلى ذات ما، أما المعنى الموضوعي فنسبة إلى الموضوع ذاته.فقلت له:- هل يمكن أن توضح أكثر؟فأجاب:- إن الشيء الواحد قد تكون له قيمة بالنسبة لشخص ما ولا تكون له مثل هذه القيمة بالنسبة لشخص آخر. وهذا هو المعنى الذاتي للقيمة. أما المعنى الموضوعي فهو حينما تكون للشيء قيمة في ذاته، وليس بالنسبة لشيء آخر.ثم قلت له ولزملائه:- هل من أمثلة توضيحية على ذلك؟فقال تلميذ:- الخمر قد يكون محبوبا وله قيمة عند شخص ولا تكون له قيمة عند شخص آخر.- ممكن.وقال آخر:- الشعر أو الرسم قد يتذوقهما شخص ما، وبالتالي يكتسبا قيمة عنده. بينما لا يمنحهما شخص آخر أية قيمة.- هذا صحيح، خصوصا إذا اختلفت مواهبهما أو ثقافتهما والمبادئ التي يؤمنان بها. فقد يعتبر شخص ما ذو ثقافة دينية متزمتة أن الرسم أو الموسيقى محرمان ولا يجوز التعاطي لهما، لأنه لا قيمة إيجابية لهما في الحياة. بينما نجد لهما قيمة كبيرة عند شخص حداثي مثلا.وقال آخر:- إن أدوات الفلاحة أو النجارة أو الحدادة لا تكون لها قيمة إلا عند أصحابها، بينما لا يأبه لها الآخرون ولا يولون لها اهتماما كبيرا. وهذا ما يسمى أيضا بالقيمة الاستعمالية للشيء.- حسنا كل هذا صحيح. وهناك أمثلة كثيرة في هذا الباب. لكن ماذا عن المعنى الموضوعي للقيمة؛ هل هناك أشياء لها قيمة في ذاتها بغض النظر عن قيمتها بالنسبة لهذا الشخص أو ذاك؟فسكت التلاميذ في لحظة للتفكير والتأمل.وهنا بادرت بالقول:- أليس لبعض الأشياء قيمة بالنسبة لجميع الناس؟فقال أحد التلاميذ:- أجل. الهواء والماء مثلا؛ إذ أن لهما قيمة عند الكل ولا يستطيع أحد أن يستغني عنهما. فهما ضروريان للحياة، ولذلك فالجميع يفضلهما ويثمن قيمتهما.فقلت:- هذا صحيح، وقد ينطبق على أشياء أخرى تتوفر على قيمة موجودة فيها، وتكون محل تفضيل ورغبة لدى الجميع، مثل: الخضروات والحبوب (ولو أن البعض يفضل هذا النوع من الخضروات على ذاك)، وكذلك القطاني والتوابل. وقل نفس الشيء عن وسائل النقل والأدوات التقنية والإلكترونية، وكذلك المنازل والأفرشة وممارسة الرياضة وغير ذلك. إن كل هذه الأشياء تمتلك خاصية موضوعية ثابتة فيها، تجعلها محل تفضيل ورغبة لدى الغالبية العظمى إن لم نقل لدى جميع الناس بدون استثناء.ثم توجهت بالسؤال إلى التلاميذ:- لكن ما الذي يجمع بين القيمتين الذاتية والموضوعية المذكورتين في تعريف لالاند؟فأجابت تلميذة:- ما يجمع بينهما هي خاصية الثبات كما ذكرنا.- حسنا، صحيح أن الشيء الذي تكون له قيمة هو الذي يتوفر على خاصية ثابتة فيه تجعله إما محل تفضيل لدى بعض الناس، وهذه هي القيمة الذاتية، أو يكون مفضلا لدى الجميع لأنه أهل للتفضيل، وهذه هي القيمة الموضوعية. لكن، ألا تلاحظون معي أن القيمة هنا تتعلق بالأشياء، سواء كانت ذاتية أو موضوعية، كما أنها قيمة لا نتحدث عنها إلا بنسبتها إلى الأشخاص. فبدون وجود الناس يصعب الحديث عن قيمة بخصوص كل الأشياء التي ذكرناها. أليس هذا صحيح؟فقال أحد التلاميذ:- بالفعل، فالإنسان هو الذي يتحدث عن قيمة للأشياء، ولا معنى لهذه القيمة إلا بوجوده.فقلت له:- لكن ما يهمنا هنا ليست القيمة المتعلق بالأشياء، وإنما قيمة الشخص. وإذا أردنا تطبيق مفهوم القيمة الوارد عند لالاند على مفهوم الشخص، فما هي النتيجة التي سنتوصل إليها؟قال تلميذ:- ستكون قيمة الشخص هي خاصية ثابتة فيه تجعله جديرا بالتقدير والاحترام.- بالفعل هذا استنتاج في محله. وهل ستكون للشخص قيمة استعمالية مثل الأشياء ؟فقال أحد التلاميذ:- لا طبعا، لأن الشخص هو الذي يستعمل الأشياء ويمنحها قيمة بالنسبة إليه. أما هو فتكون له قيمة في ذاته لا دخل للأشياء فيها.- لكن بالنسبة للأشخاص الآخرين، أليست لهم أهمية ودور في تحديد قيمة الشخص؟ أليس المجتمع هو الذي يحدد قيمة الشخص انطلاقا مما يمتلكه من كفاءات وقدرات تجعله مفيدا للمجتمع وإيجابيا في خدمته للغير؟ وفي هذه الحالة، ألا تكون قيمة الشخص نسبية ومتغيرة؛ بحيث تكون كفاءاته مفيدة لهذا المجتمع وغير مفيدة لمجتمع آخر؟فتدخلت تلميذة قائلة:- لكن هناك كفاءات متعارف عليها بين المجتمعات، مثل الكفاءات السياسية والأخلاقية والعلمية والتقنية ..الخ، وهي التي تجعل للشخص نفس القيمة حيثما حل وارتحل.- قد يكون هذا صحيح، لكن ليس في كل الحالات. فقد تكون بعض الكفاءات مطلوبة في هذا المجتمع وغير مرغوب فيها في مجتمع آخر. ومهما كان الأمر، هل يمكن القول بأن الآخرين دائما هم الذين يحددون قيمتي؟ ألا يمكن أن أمتلك كشخص قيمة أصيلة في ذاتي بغض النظر عن تقييم الآخرين وحكمهم علي؟فأجب أحد التلاميذ:- لا يمكن الحديث عن قيمة الشخص بدون وجوده مع الغير. فقيمة الشخص تكمن في انفتاحه على الآخرين ومساهمته في تطوير المجتمع.- صحيح، فنحن لا نتحدث عن قيمة للشخص إلا في تواجده مع بقية الناس، باعتباره كائنا اجتماعيا. لكننا نجد داخل المجتمع الواحد اختلافا بين الناس في الأذواق والتصورات والمعتقدات الدينية والسياسية والمذهبية ..، ألا يمكن أن يدل ذلك على ضرورة احترام الناس لبعضهم البعض بالرغم من وجود هذه الاختلافات الموجودة بينهم؟فقال تلميذ:- نعم، لا بد للناس من أن يحترموا بعضهم البعض، بغض النظر عن الاختلافات الكثيرة الموجودة بينهم.- ثم ألا يدل ذلك على أن للشخص قيمة ثابتة موجودة فيه هي التي تجعله ذا قيمة وجديرا بالاحترام؟ أليس الكائن البشري متميزا عن غيره من الحيوانات والأشياء بخاصية أو بخصائص هي التي تجعل له قيمة أكثر منها؟فقال أحد التلاميذ:- بالفعل، فالشخص ككائن بشري يتميز عن الحيوانات والأشياء وله قيمة أكثر منها.- أو ليس العقل هو ما يميز الإنسان عن الحيوان؟فقال التلميذ:- أجل.فقلت:- يبدو إذن أن العقل هو مصدر أية قيمة يمكن أن يتميز بها الشخص، فبدونه لا يكون الإنسان شخصا. لكن هل امتلاك الإنسان للعقل كاف لكي تكون له قيمة؟ أفلا يختلف الناس من حيث استعمالهم لعقولهم؟ وهل كل استعمال للعقل يكون إيجابيا ويمنح صاحبه قيمة؟فأجابت تلميذة:- لا بالطبع؛ فالإنسان قد يستخدم عقله في الشر كما يستخدمه في الخير. والذي يستثمر عقله في فعل الخيرات تكون له قيمة أكثر من الذي يستخدمه في فعل المنكرات.- وهذا العقل الذي يجعلنا نميز بين الخير والشر يسمى عقلا أخلاقيا. وربما كانت قيمة الشخص تكمن على مستوى امتلاكه لعقل أخلاقي. لكن هذا يطرح مشكلا أشرنا إليه من قبل وهو: هل الكائنات التي لا تمتلك هذا العقل وليس لها القدرة على التمييز بين الخير والشر، كالأطفال الصغار والرضع أو المصابين بعاهات عقلية …، ليست لها قيمة الشخص؟ هل يمكن إقصاؤها من التقدير والاحترام والتعامل معها كأشياء أو وسائل؟ أليس هذا منافيا للأخلاق والقيم الإنسانية؟قال تلميذ:- إن هذه الكائنات البشرية المذكورة لست لها نفس قيمة الكائنات البشرية الممتلكة للعقل الأخلاقي، ولكن مع ذلك لا ينبغي معاملتها كالحيوانات.- وهذا يعين أنها تمتلك قيمة ما، باعتبارها كائنات بشرية وليست حيوانات أو أشياء.- نعم، صحيح.- هنا يمكننا التساؤل: هل توجد خاصية ثابتة ومشتركة بين جميع الكائنات البشرية، هي التي تجعلها أشخاصا وتمتلك قيمة أصيلة في ذاتها؟ أم أنه لا توجد مثل هذه الخاصية الثابتة والمشتركة، وبالتالي فقيمة الشخص تظل نسبية ومتغيرة؟هنا تبين لنا أن الحديث عن قيمة الشخص ومحاولة تحديد الإشكال المتعلق بهذه القيمة، هو حديث متشعب ويثير العديد من الصعوبات.وفي محاولة لجمع شتات التساؤلات المكون لإشكال قيمة الشخص، قلت لتلامذتي:- ما هي أهم التساؤلات التي أثرناها، والتي تكون في تشابكها وتداخلها الإشكال المتعلق بمحور قيمة الشخص؟فقدم التلاميذ عدة اقتراحات. وبعد عملية انتقاء وفرز توصلنا إلى صياغة التساؤلات التالية، التي اعتبرنا أنه يستدعيها أي حديث عن قيمة الشخص:- ما الذي يمنح للشخص قيمة؟ وما الذي يجعله جديرا بالاحترام؟- هل توجد خاصية ثابتة لدى جميع الأشخاص هي التي تمنحهم نفس القيمة المشتركة؟ وأين تكمن مثل هذه الخاصية؟- وإلى أي حد يمكن أن نربط قيمة الشخص بعلاقته مع الغير؟ وهل يمكن أن نتحدث عن قيمة نسبية للشخص؟ وما هي محدداتها؟ وهنا انتهت الحصة، وبقيت أذهان التلاميذ متوثبة ومشدودة إلى التصورات الفلسفية الكفيلة بمعالجة مثل هذه التساؤلات الإشكالية.وقد كسرت قليلا مثل هذا الترقب حينما أشرت على التلاميذ بقراءة نص لكانط موجود في المقرر الدرسي، والإجابة عن أسئلة متعلقة به. وكل هذا من أجل تقديم تصور كانط كصاحب أطروحة أساسية تجيب عن إشكال قيمة الشخص، ثم البحث بعد ذلك عن تصورات فلسفية ممكنة من أجل محاورته
بقلم
الأستاذ محمد الشبة جزاه الله خيرا | |
|