الشرقاوي وافق
الإعجاز البلاغي في التقديم والتأخير 613623
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة يرجي التكرم بتسجبل الدخول اذا كنت عضو معنا
او التسجيل ان لم تكن عضو وترغب في الانضمام الي اسرة المنتدي
سنتشرف بتسجيلك
شكرا الإعجاز البلاغي في التقديم والتأخير 829894
ادارة المنتدي الإعجاز البلاغي في التقديم والتأخير 103798
الشرقاوي وافق
الإعجاز البلاغي في التقديم والتأخير 613623
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة يرجي التكرم بتسجبل الدخول اذا كنت عضو معنا
او التسجيل ان لم تكن عضو وترغب في الانضمام الي اسرة المنتدي
سنتشرف بتسجيلك
شكرا الإعجاز البلاغي في التقديم والتأخير 829894
ادارة المنتدي الإعجاز البلاغي في التقديم والتأخير 103798
الشرقاوي وافق
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 الإعجاز البلاغي في التقديم والتأخير

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin
Admin
Admin


ذكر عدد المساهمات : 34923
نقاط : 160659
السٌّمعَة : 1074
تاريخ التسجيل : 14/05/2009
الموقع : http://www.autoformer.net/

الإعجاز البلاغي في التقديم والتأخير Empty
مُساهمةموضوع: الإعجاز البلاغي في التقديم والتأخير   الإعجاز البلاغي في التقديم والتأخير Dc3srhibiyuaw8ppyxj6الثلاثاء أكتوبر 19 2010, 12:10

الدكتور محمد السيد عبد الرازق موسى

كلية الشريعة أستاذ مساعد البلاغة والنقد

كلية التربية – جامعة المنصورة

مقدمة:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلّم تسليماً كثيراً وبعد...

فإن القرآن الكريم أعظم أنيس وخير جليس، لا يُملّ حديثه ولا تنفد عجائبه، وترداده يزداد فيه تجمّلاً، وإنّ من أسرار القرآن العظيم وروعة بيانه أنّك كلّما أبحرت فيه ازددت تعمّقاً وشوقاً وكلما نهلت من فيضه ومعينه الصّافي ازددت به تعلّقاً وتشبثاً، وما يبعد عنه إلّا من جفا قلبه وغلظ كبده.

وهذا كتابه الله – تعالى – الذي شغل العالم منذ نزوله إلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو مصباح الظّلام ومنهل البيان الذي وقف فحول العرب وفصحاؤهم أمامه عاجزين مشدوهين، وهم الذين طالما خاضوا معارك البلاغة والبيان، وتباروا في فنون القول وأسراره حتى أسروا القلوب والأذهان بسحر بيانهم وتبيينهم، وهاهم أولاء يقفون أمام البيان الأعظم مأسورين مشدوهين عاجزين!!

وقد جاء أسلوب القرآن الكريم في الغاية العظمى من البلاغة والفصاحة، وخرج عن جميع وجوه النظم المتعارف عليها في كلام العرب فتوافر العلماء على البحث في أسراره واستخراج درره، فصنّف فيه الزملكاني والفراء وأبو عبيده وابن قتيبة والإمام الرازي وعبد القاهر الجرجاني وغيرهم، ( والواقع أن المصنفات الأولى في الإعجاز على اختلاف مذاهب أصحابها، جاءت أشبه بمباحث بلاغية مما قدروا أن إعجاز القرآن يُعرف بها، وإن استوعبت أقوال المتكلمين في وجوه الإعجاز، فرسائل الخطّابي السنى، والرّمّاني المعتزلي، والباقلّاني الأشعري، تأخذ مكانها في المكتبة البلاغيّة وبعد أن استقلّت البلاغة بالتأليف والتصنيف، وُجّهت إلى خدمة الإعجاز البلاغي.. الجرجاني يضع كتابه في النظم والبلاغة ويقدّمه باسم ( دلائل الإعجاز )، وأبو هلال العسكريّ يضع علم الفصاحة والبلاغة تالياً لعلم التّوحيد، والزمخشري وهو من المعتزلة يقرّر أنه لابدّ من علم البيان والمعاني لإدراك معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم..

وجرى المتأخّرون على أن يجمعوا في الإعجاز كل ما قاله السّلف من وجوه، كصنيع الشيخ محمد عبده في الفصل الذي كتبه في تفسيره ( تفسير الذكر الحكيم ) عن الإعجاز [1]

مشكلة البحث :

تكمن مشكلة البحث في وجود دقائق نفيسة ولطائف بليغة لأسلوب التقديم والتأخير الذي عدّه ابن جني إحدى صور شجاعته العربية وقوّة لغتها... ويتنوّع هذا الأسلوب وتتغير دلالته تبعاً لتغيّر السياق وحاجة المقام، فما كان لكلمة أن تتقدم من مكانها دون غاية معنوية وهدف دلالي تريد أن تبثّه في الجملة... والقرآن الكريم كلام الله المعجز وبيانه المحكم يشتمل على هذه الأساليب التي ينبغي الوقوف مع أسرارها ودلائلها.

هدف البحث ومنهجه :

يهدف البحث إلى الوقوف على أساليب التقديم والتأخير ومعرفة لطائفه، فهو باب كثير الفوائد، جم المحاسن، واسع التصرف، بعيد الغاية، لايزال يفتر لك عن بديعة ويفضي بك إلى لطيفه[2]، ثم يقول : إلا أنّ الشأن في أنّه ينبغي أن يعرف في كل شيء قدّم فيه موضع من الكلام مثل هذا المعنى ويفسّر وجه العناية فيه هذا التفسير .[3]

وقد تمثل منهج البحث في الخطوات الآتية :

· أولاً : التّقديم لمراعاة السّياق وحسن انتظام الكلام.

· ثانياً : التقديم للاختصاص.

· ثالثاً : التّقديم بين الآية والآية، وهذه الوقفة تشمل ما يأتي :

1. تقديم صيغة على أخرى في بعض آيات السورة الواحدة

2. تقديم آية على آية في النّزول

3. تقديم موضوع على آخر في السورة الواحدة

4. التقديم والتأخير في المتشابه

· الخاتمة : وتتضمّن أهم نتائج البحث وبعض التّوصيات

· ثبت المصادر والمراجع.

أوّلاً: التّقديم لمراعاة السّياق وحسن انتظام الكلام:

إنّ الناظر في بستان القرآن الكريم ليجد نفسه في حديقة غنّاء، لا يكاد يخرج من ثمرة إلّا ويجد نفسه قد تعلّقت بأخرى يستنشق عبيرها ويطعم رحيقها في إذكاء روحي منقطع النّظير..

والناظر في السّياق القرآني يجد هذا الأسلوب هو "مادة الإعجاز في كلام العرب كلّه، ليس من ذلك شيء إلّا وهو معجز، وليس من هذا شيء يمكن أن يكون معجزاً، وهو الذي قطع العرب دون المعارضة [4]" والسياق القرآني يحمل الكثير من الخصائص التركيبية التي تسمو على لغة البشر قوة وصفاء ونقاء، وكان سياق التقديم والتأخير واحداً من فرائد القرآن وخصائصه، سيق لإبراز مقام الموقف بروحه وعمقه، وسوف نقف بإذن الله وتوفيقه مع بعض هذه السياقات:

التقديم في بعض أسمائه سبحانه:

كتقديم ( العزيز ) على ( الحكيم ) لأنّه تعالى عز فحكم كما في قوله تعالى:(( ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم إنّك أنت العزيز الحكيم )) ( البقرة 129 )

وذلك أن معنى ( العزيز ) لا يغالب، والقادر الذي لا يمتنع عليه شيء أراد فعله. ومعنى ( الحكيم ) المدبّر الذي يحكم الصنع ويحسن التدبير، فتكون القدرة متقدّمة على حسن التّدبير [5].

وبالنّظر في الآية الكريمة نجد فيها ترتيباً آخر اقتضى تنظيم الأفعال داخل السياق فجاء الدعاء ببعث الرسول أولاً ( وابعث ) ثم التلاوة ( يتلو ) ثم التعليم ( ويعلّمهم ) ثم التزكية والتطهير ( ويزكّيهم)..

وفي ترتيب هذه الأفعال وتقديم بعضها على بعض أثر عميق في النفس.. إذ يوحي اختيار كلمة البعث في قوله ( وابعث ) بأنهم كانوا كالموتى في أحوالهم، لا يشعرون بشيء من صالح الحياة، فيكون الرسول فيهم بمثابة من بعثهم من رقادهم الجاهلي وموتهم القلبي.. وقوله ( منهم ) ليكون أرفق بهم وأعلم بشؤونهم وأحوالهم.. فإذا تحقق هذا جاءت المرحلة الثانية وهي التلاوة بما فيها من خشوع وتدبّر وترقيق للقلب والنفس، ولذلك اقتضاها السياق إيثاراً على ( يقرأ ) مثلاً، فإذا تحققت التلاوة بسياجها جاء التعليم الذي يشتمل على الكتاب أي القرآن الكريم وبما فيه من حكمة، أي فقه الشريعة وفهم التأويل، و"قيل إن المراد بالآيات:ظاهر الألفاظ، والكتاب:معانيها، والحكمة:الحكم وهو مراد الله بالخطاب، والعزيز:الذي لا يعجزه شيء، قاله ابن كيسان، وقال الكسائي:العزيز:الغالب[6]. ولهذا أكّد الضمير المتصل في ( إنك ) بالضمير المنفصل ( أنت ) للدلالة على أنه لا غالب إلا الله تعالى، فهو سبحانه وتعالى غالب على أمره، يمضي أمره ويمكّن لرسله، ولهذا اقتضى السياق في ختام الآية قوله:( العزيز الحكيم ) دون:العليم أو الخبير مثلاً، ولأن لكل مقام مقال، فقد جاءت السياقات المشابهة لهذا المعنى بـ ( العزيز الحكيم ) نحو قوله تعالى:(( فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البيّنات فاعلموا أن الله عزيز حكيم )) ( البقرة 209 )

فقد جاءت الآية على وجه التهديد والوعيد، أي:من ضلّ عن طريق الهداية وانحرف عن سبيل الحق بعد ما تبيّن له البيّنات والحجج ما تبيّن (( فاعلموا أن الله عزيز حكيم )) وهذا أبلغ في إثبات الروع والمهابة، ولو جاء نوع العذاب محدداً ما بلغ في الحسن مبلغ قوله ( عزيز حكيم ) أي غالب لا يعجزه الانتقام منكم، ( الحكيم ) لا ينتقم إلا بحق، وروى أن قارئاً قرأ غفور رحيم، فسمعه أعرابي فأنكره، ولم يقرأ القرآن، وقال:إن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا الحكيم، لا يذكر الغفران عند الزلل، لأنه إغراء عليه[7].

وإذا كان الزلل معناه التنحّي عن طريق الحق والهداية، فإن أصله "الزلل في القدم، ثم استعمل في الاعتقادات والآراء وغير ذلك، يقال:زلّ يزلّ زلا وزللا وزلولا، أي دحضت قدمه، وقرئ:زللتم " بكسر اللام وهما لغتان" [8].

وقد جاء الفعل ( جاءكم ) مؤنثاً بتاء التأنيث لأن الفاعل مؤنث ( البيّنات ) أي:الحجج الواضحة والبراهين الصحيحة، وقد يأتي مذكّراً مع ( البيّنات ) في موضع آخر حسب اقتضاء المعنى، وذلك كما جاء في قوله تعالى:(( كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البيّنات والله لا يهدي القوم الظالمين )) ( آل عمران 86 )

فإن المقصود بالبيّنات في هذا الموضع:القرآن الكريم، والله تعالى أعلم، لأنّ ما دلّت عليه الكلمة كان مذكراً، فقد جاء قبلها قوله تعالى:(( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين )) ( آل عمران 85 )

وكل من هؤلاء الأنبياء... أُنزل عليه كتاب، والكتاب مذكر، ثم ورد في الآية التالية لها، كلمة ( الإسلام) والإسلام مذكر، فما دلت عليه كلمة البيّنات كان... مذكراً سواء أكان الكتاب أم كان الإسلام أم كان الكتاب والإسلام معاً، ولهذا جاء فعلها... مذكراً [9].

وقال تعالى في موضع آخر من نفس السورة الكريمة:(( ولا تكونوا كالّذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيّنات وأولئك لهم عذاب عظيم )) ( آل عمران 105 )، فقدّم التفرقة على الاختلاف لأن الأولى سبب في الثانية التي جاءت مترتّبة عليها، فالاختلاف ناجم عن التفرقة وتابع لها، وهو ثمرة من ثمارها، وجاء الفعل( جاءهم ) في صورة المذكّر، لأن كلمة البيّنات التي وردت في الآية تعني الكتاب – كذلك – تعني التوراة والإنجيل وكل منهما كتاب [10].

وتأتي مواضيع تقديم العزّة على الحكمة في السياقات التي تتحدث عن قدرة الله تعالى ووحدانيّته وذلك نحو قوله تعالى:(( هو الّذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلّا هو العزيز الحكيم )) ( آل عمران 6 )

وقوله:(( شهد الله أنّه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم )) ( آل عمران 62 )

وقوله:(( إن تعذّبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم )) ( المائدة 118)

وقوله:(( يا موسى إنّه أنا الله العزيز الحكيم )) ( النمل 9 )

هذا ويتقدّم ذكر العزيز على الحكيم – أيضاً – في مقام تنزيه الله تعالى وخضوع الكون له – سبحانه – وذلك نحو قوله تعالى:(( وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم )) ( الجاثية 37 )

وذلك لأن السياق قبل هذه الآية، تحدّث عن عناد الكافرين وإعراضهم عن منهج الحق، فسلّط الله عليهم عذاب النار لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون فناسب ذلك ذكر العزيز الذي لا يغلبه شيء ولا يفوته.. ويفعل ذلك عن حكمة ويقول تعالى:

(( وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزواً وغرّتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون )) ( الجاثية 34- 35 )

وفي مقام التّنزيه والتسبيح يقول الحق سبحانه:

(( سبّح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم )) ( الحديد 1 )

(( سبّح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم )) ( الحشر 1 )

(( هو الله الخالق البارئ المصوّر له الأسماء الحسنى يسبّح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم )) ( الحشر 24 )

فناسب هذا المقام ذكر العزيز على غيره من الأسماء والصفات، وناسبه التقديم على ( الحكيم ) لئلا يتوهّم أحد أن الله تعالى بحاجة إلى من يسبحه أو ينزهه، بل هو منزه بذاته، قدوس بجلاله، عزيز بقوته وجبروته وحكمته.. وقد جاء فعل التسبيح بالماضي ( سبح لله ) كما في أوّل الحديد والحشر ( والصف أيضاً )، وختمت سورة الحشر بالمضارع ( يسبح ) وافتتحت بها سورة الجمعة:(( يسبّح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدّوس العزيز الحكيم )) ( الجمعة1).

لأن هذه الكلمة استأثر الله بها، فبدأ بالمصدر في بني إسرائيل ( سورة الإسراء ) فقال تعالى:(( سبحان الذي أسرى بعبده.. )) لأنه الأصل، ثم بالماضي لأنه أسبق الزمانين، ثم بالمستقبل، ثم بالأمر في سورة الأعلى ((سبح اسم ربك الأعلى ))، استيعاباً لهذه الكلمة من جميع جهاتها وقوله تعالى:(( لله ما في السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير )) ( الحديد 2 )، لأن التقدير في هذه السور:(سبح لله كل السموات والأرض ) وكذلك قال في آخر الحشر بعد قوله:(الخالق البارئ المصوّر ):(( هو الله الخالق البارئ المصوّر له الأسماء الحسنى يسبّح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم )) ( الحشر 24 ) أي خلقهما [11].

وتأتي أيضاً مواضع تقديم العزّة على الحكمة في السياقات التي تتحدث عن النصر وذلك نحو قوله تعالى:(( وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئنّ قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم )) ( آل عمران 126 ) وقوله:(( وما جعله الله إلّا بشرى ولتطمئنّ به قلوبكم وما النّصر إلّا من عند الله إنّ الله عزيز حكيم )) ( الأنفال 10 )

فقدّم البشرى على الطمأنينة في سياق أسلوب القصر بالنفي والاستثناء الذي تكرّر مرتين، لأنّ الطمأنينة ناتجة عن البرى التي تبعث السرور والراحة في النفس فتنشأ الطمأنينة بالتبعية، وجاء التعبير بلفظة الجلالة ( الله ) لإثبات مقام العزّة وغلبة أمر الله في دحض المشركين..

وقد جاءت الآية في آل عمران بإثبات ( لكم ) وتأخير به وحذف أسلوب ( إن الله ). وفي آية الأنفال بحذف ( لكم ) وتقديم ( به ) وإثبات ( إن الله )، لأن البشرى هنا للمخاطبين، فبيّن وقال:( لكم ).

وفي الأنفال قد تقدّم ( لكم ) في قوله تعالى:(( إذ تستغيثون ربّكم فاستجاب لكم أنّي ممدّكم بألف من الملائكة مردفين )) ( الأنفال 9 ) فاكتفى بذلك[12].

وفي مقام الحديث عن نصر الله لنبيّه والتمكين له في الأرض ودحض كلمة الكافرين، تقدّم ذكر العزيز على الحكيم، يقول تعالى:(( إلّا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الّذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنّ الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيّده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم )) ( التوبة 40 )

فجاء التعبير بالفعل الماضي الدال على التحقيق واليقين في الحديث عن النصر:فقد نصره الله فأنزل – وأيّده – وجعل... بينما جاء التعبير بالمضارع في تصوير مشهد الغار (( إذ يقول لصاحبه لا تحزن... )) وذلك لاستحضار صور المشهد بملابساته وما أحيط بهما من مخاطر أدّت إلى فزع أبي بكر الصديق رضي الله عنه الذي نال شرف الكناية عنه في قرآن يتلى إلى يوم القيامة، وذلك في قوله تعالى:(( إذ يقول لصاحبه ))

وفي مقام الحديث عن كلام الله تعالى والقرآن الكريم وتنزيله من السماء يتقدم – أيضاً – ذكر العزيز على الحكيم كما في قوله تعالى:(( ولو أنّما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم )) ( لقمان 27 )

فلو جعلت الأشجار التي في الأرض أقلاماً لكتابة كلمات الله، وجعل مدادها البحر المتصل بمدار سبعة أبحر أخرى، فإن تلك الأقلام ومعها المداد تنفد دون أن تنفد كلمات الله.

وجاء التعبير بالشجرة على الإفراد دون الجمع لإرادة ( تفصيل الشجر وتقصّيها شجرة شجرة، حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلّا قد بريت أقلاماً، فإن قلت:الكلمات جمع كلمة، والموضع موضع التكثير لا التقليل فهلا قيل:كلم الله ؟ قلت:معناه أن كلماته لا تفي بكتابتها البحار، فكيف بكلمه ؟[13]

ومما ورد من تقديم العزيز على الحكيم في مقام ذكر القرآن الكريم وتنزيله، وقوله تعالى:(( حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم )) ( الجاثية 1-2 ) وقوله تعالى:(( حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم )) ( الأحقاف 1-2 )

هذا وقد يأتي ذكر ( العليم ) متقدماً على ( الحكيم ) في مواضع أخرى تبعاً لاقتضاء المقام وحاجة السياق، وهذا كثير في القرآن الكريم، ومنه قوله تعالى:(( قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنّك أنت العزيز الحكيم )) (البقرة 32 )

وقوله تعالى:(( ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهنّ ولد فإن كان لهنّ ولد فلكم الربع ممّا تركن من بعد وصيّة يوصيني بها أو دين ولهنّ الربع ممّا تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهنّ الثمن مما تركتم من بعد وصية يوصى بها أو دين وصية من الله والله عليم حليم )) ( النساء 12 )

وقوله تعالى:(( ولا تتمنّوا ما فضّل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب ممّا اكتسبوا وللنساء نصيب ممّا اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليماً )) ( النساء 32 )

فجاء الخبر بـ ( عليم ) والصفة بـ ( حليم ) ليناسب سياق الآية قبلها فقد كانت تتحدث عن الميراث والوصية التي تكون أحد أمرين:عدل أو جور.. فجاء التحذير بأن الله تعالى يطالع على ذلك ويعلمه وهو سبحانه( حليم ) عن الظالم والجائر، فلا يعجل عليه بالعقاب عساه أن يرجع إلى رشده فإذا ظلم في وصيته، وفي الآية نكتة بلاغية أخرى ألا وهي تقديم تنفيذ الوصية على وفاء الدين، فإن وفاء الدين سابق على الوصية، ولكن قدّم الوصية لأنهم كانوا يتساهلون بتأخيرها بخلاف الدين [14].

وفي مقام آخر يقول تعالى:(( يريد الله ليبيّن لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم )) ( النساء 26 )

فهو سبحانه عليم بأمور الخلق وما يناسبهم ويصلحهم، وهو يهديهم إلى الرشاد بعلمه المحكم وحكمته البالغة، ولذلك تغاير السياق هنا، وجاءت الحكمة رديف العلم، وجاء الحلم رديف العلم في سياق الآية السابقة للمعنى المشار إليه آنفاً.

وربما جاءت آيات أخرى حاملة في سياقاتها أسلوباً آخر على خلاف ما سبق، تقدّم فيه ( الحكيم ) على( العليم) لعلّة يقتضيها السياق، وذلك نحو قوله تعالى:(( وتلك حجّتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم )) ( الأنعام 83 )

فسبق الحكم هنا العلم، لأن المقام اقتضى ذلك من خلال الحديث عن الحكمة التي لقّنها الله تعالى نبيّه إبراهيم، وأشار إليها بقوله:( وتلك ) فاستطاع أن يحتجّ بها على قومه، وكان أن نال من الله الرفعة في الدرجات، وذلك بمقتضى الحكمة الإلهية في تصريف الشؤون والأحوال.

ومثال ذلك قوله تعالى:(( وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم )) ( الزخرف 84 )

فاقتضى المعنى أن تسبق الحكمة العلم في هذا السياق أيضاً لأن الآية الكريمة تتحدث عن صفة الألوهية، وما يتصف به الله عز وجل من حكمة في تصريف الكون وتشريع الأحكام.. وقد ( ضمن اسمه تعالى معنى وصف، فلذلك علق به الظرف في قوله ( في السماء ) ( وفي الأرض )، كما تقول هو حاتم طىّ حاتم في تغلب، على تضمين معنى الجواد الذي شهر به، كأنك قلت هو جواد في طى جواد في تغلب [15].

وقد سبق الحكم العلم أيضاً في موضع آخر في قوله تعالى:(( كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم )) (الذاريات 30 ). فهذا مقام من مقامات التصريف الإلهي العجيب أيضاً وهو يحمل غرابة الموقف واستحالة حدوثه في العرف البشري وكان أن كان، وولدت العجوز من الشيخ الهرم..!

وفي موضع لا نظير له في القرآن يتقدّم (عليّ ) على ( حكيم ) وذلك في قوله تعالى (( وما كان لبشر أن يكلّمه الله إلّا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عليّ حكيم )) ( الشورى 51 )

والمعنى:تعالى عن أن يكلّم أو يكلّم شفاهاً، حكيم في تقسيم وجوه التكليم [16] ولتمام هذا المعنى وإحكامه، صُدّرت الآية بأسلوب القصر المتمثل في النفي والاستثناء ثم توالت النكرات في سياقها لإفادة العموم:لبشر وحياً حجاب / رسولاً / وذلك في ظلال الإيقاع الصوتي الناشئ من قوله:وحياً فيوحى، أو يرسل رسولاً.

وفي سورة المجادلة تبادلت الكلمات المواضع تبعاً للمعنى الوارد في السياق ففي قوله تعالى:(( والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسّا ذلكم توعظون به والله بما تعلمون خبير )) (المجادلة3) وقال أيضاً في نفس السورة: (( يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسّحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل لكم انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير )) ( المجادلة 11 ) وقال جل شأنه في نفس السورة أيضاً: (( أأشفقتم أن تقدّموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون )) (المجادلة13).

فالموضع الأول والثاني يتعلّقان بالعمل، فلا يمسّ الرجل زوجته التي ظاهر منها إلا بعد تحرير رقبة في الموضع الأول، والثاني يتعلق بعمل التفسّح في المجالس والنشوز والارتفاع عنها... أما الموضع الثالث فلا يتعلق بعمل، وإنما يتعلق بالتخفيف الذي نزل إلى المؤمنين ورفع عنهم أمر الله بتقديم الصدقات عند مناجاة النبي لعلمه سبحانه بمشقّة هذا الأمر عليهم، فهو خبير بالنفوس وخفايا القلوب.

تقديم السمع:

اطّرد تقديم السمع في القرآن الكريم سواء أكان على البصر أو الرؤية أو العلم أو القرب... في شأن الخالق أو شأن المخلوقين... وذلك نحو قوله تعالى:(( قل أرأيتم أن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرّف الآيات ثم هم يصدفون )) ( الأنعام 46)

(( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير )) ( الإسراء 1 )

(( قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى )) ( طه 46)

وفي مجال تقديم السمع على العلم وما جرى مجراه قد أتى في اثنين وثلاثين موضعاً، هي كل ما جاء فيه[17] وقدّم السمع على القرب في قوله تعالى:(( قل إن ضللت فإنّما أضلّ على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلىّ ربي إنه سميع قريب )) ( سبأ 50 )

ولا يقف سر هذا التقديم عند تشريف المقدّم على المؤخّر، ولكن المقام يحتمل تفسيراً آخر... فتقديم السمع على البصر لكونه أهم منه، لأن ما يحصل من ضروب المعرفة عن طريق السمع لا يحصل عن البصر، والبصر يتوقف في تحصيله للعم على وسائط لا يتوقف عليها السمع [18].

وقد ورد في القرآن الكريم بعض آيات تقدّم فيها البصر على السمع لعلّة يحملها السياق ومن ذلك قوله تعالى:(( قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السموات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من وليّ ولا يشرك في حكمه أحداً )) ( الكهف 26 )

فتقدم البصر على السمع على خلاف المعتاد في آيات الذكر الحكيم، لأن الحديث والله تعالى أعلم يختصّ بجناب الله تعالى وقدرته على العلم بدقائق الأشياء فيستوي عنده كل شيء، يقول الزمخشري:وجاء بما دل على التعجب من إدراكه المسموعات والمبصرات للدلالة على أن أمره في الإدراك خارج عن حدّ ما عليه إدراك السامعين والمبصرين، لأنّه يدرك ألطف الأشياء وأصغرها، كما يدرك أكبرها حجماً وأكثفها جرماً وبدرك البواطن كما يدرك الظواهر[19].

وفي سياق الحديث عن الكافرين خصوصاً في مشهد القيامة وساحة العرض، يتغير أيضاً ترتيب السمع والبصر ليتقدم الأخير، يقول تعالى:(( ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيراً )) ( الإسراء 97 )

وقوله تعالى:(( ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربّنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنّا موقنون )) ( السجدة 12 )

فلم يعد هناك وجه انتفاع بسمع يفيد الطاعة والصلاح، بل لعله قدّم البصر في مثل هذه المشاهد لينبئ عن حالهم من الإعراض وعدم الاقتناع اللازم لثبوت اليقين وكأنهم كانوا في ريب من ذلك اليوم، وهاهم أولاء قد رأوه بأعينهم.

الجن والإنس:

الجن والإنس من المخلوقات التي جاء ذكرها في القرآن الكريم كثيراً، وقد جاءت على غير نسق واحد، بل جاءت بعض السياقات قدّم فيها الجن على الإنس، وأخرى قدّم فيها الإنس على الجن، وذلك تبعاً لاقتضاء المقام وتحرير المعنى، فمن السياقات التي ورد فيها ذكر الجن مقدماً، قوله تعالى:(( ويوم يحشرهم جميعاً يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجّلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم )) ( الأنعام 128)

فالخطاب هنا واقع في يوم الحشر، وهو موجّه إلى الجن على سبيل التبكيت على ما فعلوه من الاستكثار من الإنس وغوايتهم ولمزيد من التحقير حذف فعل القول أو النداء والتقدير... ويوم يحشرهم جميعاً فينادي عليهم أو فيقال لهم والله تعالى أعلم.

وفي سورة الذاريات حملت الآية جملة خبرية مقتضاها أن خلق الجن والإنس هو من أجل عبادة الله وحده، فقدّم ذكر الجن لسبقه في الخلق، وذلك في قوله تعالى:(( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)) ( الذاريات 56 )

وكذلك الشأن إذا جاء ذكر الإنس مقدماً على الجن ( فلابد من سبب في السياق اقتضى ذلك قال تعالى: (( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً )) ( الإسراء 88 )

فقدّم الإنس على الجن لأن التحدّي وقع على الناس أولاً حيث أن الرسول مبعوث أصلاً إلى الناس ويعضد التقديم أيضاً ما جاء بعد الآية المذكورة[20]، قال تعالى: (( ولقد صرّفنا للناس في هذا القرآن من كلّ مثل فأبى أكثر الناس إلّا كفوراً وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً )) ( الإسراء 89-90 )

تقديم السماء على الأرض:

عندما تقدّم السماء على الأرض فهذا هو الأصل الوارد في سياقات القرآن وهو لحكمة يقتضيها السياق ويتطلّبها المقام كقوله تعالى: (( إن الله عالم غيب السماوات والأرض إنه عليم بذات الصدور )) ( فاطر 38 )

ولا شك في أن ما غاب في السموات كان أعظم وأكثر وأشمل، فقدّم ذكرها ثم قال في نفس السورة:(( قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات أم آتيناهم كتاباً فهم على بيّنة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضاً إلا غروراً )) ( فاطر 40 )

فذكرت الأرض أولاً لأنه في سياق تعجيز الشركاء عن الخلق والمشاركة وأمر الأرض في ذلك أيسر من السماء بكثير، فبدأ بالأرض مبالغة في بيان عجزهم، ثم قال سبحانه:(( إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليماً غفوراً )) ( فاطر 41 ) فقدّم السموات تنبيهاً على عظم قدرته سبحانه لأن خلقها أكبر من خلق الأرض[21].

وبالنظر إلى سياق الآيات السباقة نجد أن السموات مقدّمة على الأرض وهذا هو الكثير المعتاد في آيات القرآن الكريم، وقد تقدّم الأرض على السماء خلافاً لهذا الأصل تبعاً لاقتضاء السياق كما في قوله تعالى:(( الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناءً وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون )) ( البقرة 22).

والله تعالى أعلم فلعله بدأ بذكر الأرض لأنها أقرب إلى النظر والتأمل وفيها المستقر والمعاش والفراش وقد وردت هذه الآية في سياق توجيه النظر إلى وجوب عبادة الله وحده وشكره على نعمه، فقال تعالى قبل هذه الآية:(( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون )) ( البقرة 21 )

وقوله:(( وما يعزب عن ربّك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين )) ( يونس 61 )

لأن الكلام قبل الآية على أهل الأرض[22]، حيث قال تعالى:(( وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه )) ( يونس 61 )

وقال الزمخشري:فإن قلت لم قدّمت الأرض على السماء بخلاف قوله تعالى في سورة سبأ:(( وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينّكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين )) ( سبأ 3 ) قلت:حق السماء أن تقدّم على الأرض، ولكنه لما ذكر شهادته على شؤون أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم، ووصل بذلك قوله ( لا يعزب عنه ) لاءم ذلك أن قدّم الأرض على السماء على أن العطف بالواو حكمه حكم التثنية[23].

وقدّم ذكر الأرض على السماء أيضاً في سورة إبراهيم في قوله تعالى:(( ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء )) ( إبراهيم 38 ) فقدّم ذكر الأرض أولاً لأنها خلقت قبل السماء ولأن هذا الداعي في الأرض. وقدّمت الأرض في خمس سور:آل عمران الآية 5 ويونس الآية 61 وإبراهيم الآية 38 وطه الآية 4 والعنكبوت الآية [24]22. ولم يذكر الكرماني الموضع السادس الوارد في آية 40 من سورة فاطر.

وقد تتقدم الكلمة في القرآن الكريم لاقتضاء المقام وسياق الأسباب التي ينبغي للمتأمل أن يراها ويعلمها كتقديم غض البصر على حفظ الفرج كما في قوله تعالى:(( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون )) ( النور 30 )

فالغض من البصر سبيل عفة الفروج وعفتها وحفظها وهي سبب أيضاً في عدم حفظها، ولهذا قدّم الغض من البصر على حفظ الفروج للتنبيه على شدّة أثرها في إثارة النفس ومن ثم فالحث على فضيلة غض البصر من أجل العفة... وقال الزمخشري فإن قلت:لم قدّم غضّ الأبصار على حفظ الفروج، قلت:لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور، والبلوى فيه أشد وأكثر[25].

وقد يكون التقديم لتعظيم المقدّم وتشريفه، بتقديم لفظ الجلالة على الرسول، في قوله تعالى:(( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً )) ( النساء 69 )

وفي الآية الكريمة إجمال في قوله:( أنعم الله عليهم ) ثم تفصيل:( من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ) وفيه إثارة ذهنية وتشويق نفسي للوقوف على تعريفهم، فإذا استشرفت النفس لهذا وتهيّأت له، وقفت على الترتيب من حيث العظمة والتشريف... الأول فالأول ( النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ).

وقد يكون التقديم للفت الانتباه لعظم الرسالة وشرفها على النبوة، كما في قوله تعالى:(( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنّى ألقى الشيطان في أمنيّته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم )) (الحج 52) فقد ظهر من الآية عدم المساواة في القدر والمنزلة بين الرسول والنبي، فالرسول من جمع إلى معجزة الكتاب المنزل عليه، والنبي غير الرسول / من لم ينزل عليه كتاب وإنما أمر أن يدعو الناس إلى شريعة من قبله [26].

وقد يكون التقديم على عكس ما سبق فيتقدّم ذكر الكلمة من أجل بيان سوء المصير وتحقيره والتنفير منه، وذلك كما في قوله تعالى:(( يوم يأت لا تكلّم نفس إلّا بإذنه فمنهم شقيّ وسعيد ( 105) فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق ( 106 ) ) ( هود 105-106 )

فتصدير الآية بكلمة ( يوم ) مع تنكيرها أبلغ في الروع والفزع، وفي نفي الكلام عن النفس على عمومها – كما أفاد التنكير أيضاً – في سياق أسلوب القصر بالنفي والاستثناء والتعبير بالمضارع ( يأت) لاستحضار الصورة مزيد من إضفاء هذا المشهد بجلاله ومهابته... ثم بعد هذا الحشد البلاغي يأتي التقسيم والتفصيل:( فمنهم شقي وسعيد ) مع تقديم للشقي للسبب السالف الذكر... وهذا أيضاً فيه إجمال، أتى بعده التفصيل الآخر الذي تناول الشقي بتكرار ذكره وبيان مكانه ( ففي النار ) لتكون وعاء لهم، يعيشون فيها حياتهم بالزفير والشهيق، وهو ما عرفوه في حياتهم الدنيا ومارسوه، ليستحضروا بذلك المشهد الحياة الحقيقية داخل النار – عياذاً بالله –

وقد تأتي الكلمة مقدمة لبيان الترتيب والسبق:

فمن حيث السبق في الزمان:قوله تعالى:(( إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي )) ( آل عمران 68 ) ومن حيث السبق في الإيجاد:قوله تعالى:(( لا تأخذه سنة ولا نوم )) ( البقرة 255 ) لأن العادة في البشر أن تأخذ العبد السنة قبل النوم، فجاءت العبارة على حسب هذه العادة، ذكره السهيلي وذكر معها وجهاً آخر، وهو أنها وردت في معرض التمدح والثناء وافتقاد السنة أبلغ في التنزيه فبدأ بالأفضل، لأنه إذا استحالت عليه السنة فأحرى أن يستحيل عليه النوم [27].

وقد تتقدم الكلمة من موقعها في السياق بعدما جاءت في صدر الآية على خلاف ذلك، كقوله تعالى:(( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً )) ( البقرة 143 )

فقد تأخّر المتعلّق على شبه الفعل في قوله ( شهداء على الناس ) وتقدّم في قوله ( عليكم شهيداً ) وذلك لأن الغرض في الأولى إثبات شهادتهم على الأمم وليس فيها معنى الاختصاص، وفي الثانية اختصاصهم يكون الرسول شهيداً عليهم وليس مجرد إثبات شهادته عليهم [28].

ومن ذلك قوله تعالى:(( يوم تبيض وجوه وتسودّ وجوه فأما الذين اسودّت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون )) ( آل عمران 106 )

فصدر الآية جاء في سياق المقابلة على هيئة الإجمال ثم التفصيل الذي بدأ بالذين اسودّت وجوههم، في حين أن البداية كانت بالذين ابيضّت وجوههم، وفي ذلك تلوين للخطاب لإدخال البشر والتفاؤل أو لا لتعظيم هذه الفئة ثم الانتهاء بذكرهم أيضاً تعظيماً وتشريفاً، ولذلك بدأ التفصيل بما انتهى إليه الإجمال والله تعالى أعلم.

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى:(( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة )) ثم قال جل شأنه:(( الزاني لا ينكح إلى زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك )) ( النور 2- 3 )

قدّم الزانية في السياق الأول لأن الكلام كان عن حد الزنا وهو الجلد، وفيه لفت للنظر وإيحاء للبشر للمحافظة على عفاف المجتمع عن طريق صيانة المرأة، لأنها إذا فسقت كانت سبباً في انتشار تلك الجريمة، أما المقام الثاني فكانت بداية الآية فيه بالرجل ( الزاني ) وهي مسوقة ( لذكر النكاح والرجل أصل فيه، لأنه هو الراغب والخاطب ومنه يبدأ الطلب[29].

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى:(( وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضّوا إليها وتركوك قائماً قل ما عند الله خيرٌ من اللهو ومن التجارة والله خير الرّازقين )) ( الجمعة 11 )

تقدمت التجارة على اللهو أولاً ثم تأخرت ثانياً... ربما كان الاعتبار هنا في هذا المقام على أنها بمثابة الشيء الواحد، لأن السياق أفاد ذمّ هذا الفعل واستنكاره، وبدليل أنه قال ( انفضوا إليها )، ولم يقل انفضوا إليهما، لأن الإنسان إذا ترك خطبة الجمعة وانصرف إلى التجارة فقد فعل اللهو والعبث، فما بالنا إذا كان هذا مع النبي ؟! هذا ومن المعلوم أنه لا يجوز أثناء الخطبة مجرد الكلام أو العبث بالثياب ونحوه، فما الأمر إذا كان الخروج للتجارة التي كان يصاحبها الطبل وقتذاك ؟! فقدّم اللهو في المرة الثانية للتنبيه على قبح فعلهم وشنيعه..

ثانياً: التقديم للاختصاص:

قد يتقدم المفعول على فعله أو يتقدم الجار والمجرور أو الظرف والحال ونحو ذلك لأجل فضيلة الاختصاص، وهو "إما بالتعيين في التردد، أو بردّ الخطأ، أي خطأ السامع في تعيين المفعول ونحوه إلى الصواب، وهو المراد من التخصيص، كما في اعتقاد العكس أو الاشتراك كقولك:زيداً عرفت، لمن تردد، إشارة إلى أنه اعتقد أنك عرفت إنساناً، لكن يتردد في تعيين أنك زيداً عرفت أم عمراً، فقولك زيداً عرفت، تعيين وتخصيص، أو لمن أخطأ في اعتقاده، بأن اعتقد أنك عرفت عمراً دون زيد، على عكس عرفانك، فقولك زيداً عرفت، يفيد الاختصاص برد الخطأ[30]، وإذا قلنا الماء شربت لا غيره، فهذا من الاختصاص الذي يشمل قصر القلب والإفراد والتعيين.

تقديم المفعول:

ورد تقديم المفعول على فعله أو فاعله لمزية يقتضيها المعنى المراد بثّه في النفوس ومن ذلك قوله تعالى: (( ساء مثلاً القوم الذين كذّبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون )) ( الأعراف 177 ) فلو جاء السياق مثلاً:كانوا يظلمون أنفسهم لما تحققت مزية تخصيص أنفسهم وحدهم بالظلم، فجأة "تقديم المفعول به للاختصاص كأنه قيل:وخصّوا أنفسهم بالظلم لم يتعدّها إلى غيرها[31]" وهنا إبراز للنفس التي ظلمت وتخيّل لأثره عليها.

ومن ذلك قوله تعالى:(( سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار )) ( إبراهيم 50 )

ففي قوله: ( وجوههم ) مجاز مرسل علاقته الجزئية، حيث ذكر الجزء، وهو الوجوه، ذكر الحاصل هو أن النار تغشى جميع أبدانهم، ولكن في تخصيص ذكر الوجوه وتقديمها لفت للانتباه لما يلحقهم من المهانة والذلة وهم الذين أرادوا الوجاهة والمنزلة في قومهم، ومن قوله:( من قطران ) بيانية أي من هذا الجنس.

تقديم الجار والمجرور:

قد يقع الظرف خبراً، أو يتقدّم الجار الأصلي فيكون خبراً، وحينئذ يشترط في الظرف الواقع خبراً وفي الجار الأصلي مع المجرور كذلك – أن يكون تاماً، أي يحصل بالإخبار به فائدة بمجرد ذكره، ويكمل به المعنى المطلوب من غير خفاء ولا لبس[32] ولابد للظرف أو الجار والمجرور من متعلق حتى تتم الفائدة أو المعنى وإلا لم يكن منهما فائدة... وسوف نقف مع بعض النماذج القرآنية لنرى ما أفاء الله به من أسرار بلاغية لهذا التقديم.

يقول تعالى:(( ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأنّ له نار جهنم خالداً فيها ذلك الخزي العظيم )) ( التوبة 63 )

لقد حملت الآية الكريمة على من يحادد الله ورسوله، فكان الزجر والوعيد الناشئ عن الاستفهام في صدر الآية، وتوكيد الخبر بأنّ واسمية الجملة لأن المنافقين مع علمهم بهذه الحقيقة نزّلوا منزلة من يجهلها وينكرها لعدم جريهم في الاعتقاد والسلوك وفق ما يقتضيه علمهم، وتقديم الخبر ( له ) على اسم ( أن ):( نار جهنم ) لإفادة القصر، أي له لا لغيره، والإفراد في ( له ) و ( خالداً ) مراد به العموم[33].

ومن ذلك ما جاء في قوله تعالى:(( قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمنّ على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون، وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرنّ على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكّل المتوكّلون )) ( إبراهيم 11-12 )

ففي تقديم الجار والمجرور في لفظة الجلالة ( وعلى الله ) في الآيتين لإفادة القصر والتخصيص أي:التوكل والاعتماد لا يكون إلا على الله لا على غيره... وجاء لفظ المؤمنون في الآية الأولى لأنه أمر من رسلهم للمؤمنين الذين آمنوا بالتوكل على الله وحده، وهذا من علامة الإيمان الصادق... وجاء لفظ ( المتوكلون ) في الآية الثانية ليكون معناه، فليثبت المتوكلون على ما استحدثوا من توكلهم وقصدهم إلى أنفسهم على ما تقدّم [34].

ومن ذلك أيضاً ما جاء في نفس السورة قوله تعالى:(( وبرزوا لله جميعاً فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص )) ( إبراهيم 21 )

جاء تقديم ( لكم ) على ( تبعاً ) لإفادة التخصيص التبعية لهم وقصرها عليهم دون غيرهم وحبس حياتهم رهن إشارتهم وفيه إظهار مدى ندامتهم وحسرتهم على تلك التبعية لسادتهم الذين لم يستطيعوا أن يدفعوا عنهم ولا عن أنفسهم شيئاً وقد هلك الجميع.

ومما جاء في تخصيص الملك والحمد بالله وحده دون غيره قوله تعالى:(( يسبّح لله ما في السموات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير )) ( التغابن 1 )

وقد وقف ابن الأثير رحمه الله أمام بعض الآيات الواردة في مثل هذه السياقات السابقة ورفض أن تكون للاختصاص، ونعى على من احتسبها كذلك، كتقديم الظرف في قوله تعالى:(( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكّلت وإليه أنيب )) ( الشورى 10 )

(( صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور )) ( الشورى 53 )

(( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة )) ( القيامة 22- 23 )

(( والتفّت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق )) ( القيامة 29 -30 )

فقال ابن الأثير:فإن هذا روعي فيه حسن النظم، لا الاختصاص في تقديم الظرف وفي القرآن مواضع كثيرة من هذا القبيل يقيسها غير العارف بأسرار الفصاحة على مواضع أخرى وردت للاختصاص وليست كذلك [35].

ولا عجب أن يكون التقديم في تلك الآيات للاختصاص مع إفادة الغرض الذي أشار إليه، لأن المعنى يقتضي ذلك ويتطلبه، فكيف لا نقول أن تقديم ( عليه ) على ( توكلت ) يفيد قصر التوكل على الله لا على غيره ؟! وكذلك الإنابة إليه دون غيره، وهذا من كمال التوحيد ونقاء العقيدة... ولو فرضنا السياق جاء على غير هذا التقديم، وكان مثلاً:توكلت عليه وأنبت إليه، لافتقد السياق مزية حسن النظم، وجلاء المعنى أيضاً فإن الجملة الأخيرة التي تأت على التقديم لتفيد أن التوكل عليه وعلى غيره أو الإنابة إليه ولا يمنع أن تكون إلى غيره ! ولكن بالتقديم سدت جميع الأبواب وقصرت التوكّل على الله وحده والإنابة إليه وحده دون غيره.

وفي آية الغاشية التي رفض ابن الأثير جعلها للاختصاص، وقد ناقض نفسه بقوله:أي تنظر إلى ربها دون غيره، فتقديم الظرف هنا ليس للاختصاص [36]!!!

فكيف لا يكون تقديم الظرف للاختصاص، وهو يقول تنظر إلى ربها دون غيره !! ويقول الزمخشري:ألا ترى إلى قوله تعالى:(( إلى ربك يومئذ المستقر )) (( إلى ربك يومئذ المساق )) (( إلى الله تصير الأمور )) (( وإلى الله المصير )) (( وإليه ترجعون )) (( عليه توكلت وإليه أنيب ))، كيف دلّ فيها التقديم على معنى الاختصاص[37].

ومما جاء في التقديم لإفادة التخصيص ورعاية الفاصلة، قوله تعالى:(( بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغياً أن ينزّل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين )) ( البقرة 90 )

(( ومن يعص الله ورسوله ويتعدّ حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين ))

ومنه أيضاً قوله تعالى:(( ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلى قومهم فجاءوهم بالبيّنات فانتقمنا من الّذين أجرموا وكان حقاً علينا نصر المؤمنين )) ( الروم 47 )

فتقديم التوكيد ( حقاً ) وتقديم خبر كان ( علينا ) لإشعار المؤمنين بالنصر المحقق الذي لا مرية فيه وفي هذا ترسيخ للعقيدة وحسن التوكّل على الله والثقة فيه لا في غيره، عندما يشعر المؤمن بأن النصر مختص بالله مقصور عليه سبحانه.

ثالثاً:التقديم بين الآية والآية:

في هذه الوقفة نرى أسراراً أخرى لأسلوب التقديم مغايرة للمواضيع السابقة، والمقصود بهذا التقديم الذي يأتي بين الآية والآية هو ما ننظر إليه من حيث تقديم صيغة على أخرى في بعض آيات السورة الواحدة، أو تقديم آية على آية في النزول، أو تقديم موضع على آخر في السورة الواحدة، أو التقديم والتأخير في المتشابه.

أولاً:تقديم صيغة على أخرى في بعض آيات السورة الواحدة:

وقد ورد ذلك في بعض المواضع من آيات الذكر الحكيم لعلة يقتضيها السياق ويتطلّبها المعنى، وذلك نحو قوله تعالى:(( يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحبّ كلّ كفّار أثيم )) ( البقرة 276)

وقوله تعالى:(( وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم )) (البقرة 283 )

فقد وردت الصيغتان في الآيتين وهما:أثيم – آثم، وتقدّمت الصيغة الأولى على الثانية للفارق المعنوي بينهما، فـ ( أثيم ) صفة مشبّهة باسم الفاعل، وهي صيغة مبالغة تفيد الإقامة على فعل ذلك الإثم والإصرار عليه والتمعّن فيه بلامبالاة، وأثيم:من قوم أثماء، والأثيم:الفاجر[38].

فقد وردت صيغة ( أثيم ) في سياق الحديث عن الربا ومحقه والنفير منه، قال الزمخشري في قوله تعالى:( كل كفار أثيم ) تغليظ في أمر الربا وإيذان بأنه من فعل الكفار ( قوم أثماء ) لا من فعل المسلمين [39].

أما الآية الأخرى فقد وردت في سياق النهي عن كتمان الشهادة (( ولا تكتموا الشهادة )) ثم الوعيد من التهديد عن طريق أسلوب الشرط (( ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ))... وكتمان الشهادة أقل جرماً من تعاطي الربا وممارسته الذي يتأذى منه المجتمع كله، بينما تأتي ثمرة كتمان الشهادة المرّة على الأفراد... وقد أسند الإثم إلى القلب لأن كتمان الشهادة ( هو أن يضمرها ولا يتكلّم بها، فلما كان إنما مقترفاً بالقلب أسند إليه، لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ، ألا تراك تقول إذا أردت التوكيد:هذا مما أبصرته عيني، ومما سمعته أذني، ومما عرفه قلبي، ولأن القلب هو رئيس الأعضاء والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله، فكأنه قيل:قد تمكّن الإثم في أصل نفسه وملك أشرف مكان فيه[40].

ومن ذلك ما جاء في قوله تعالى:(( قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرّعاً وخفية لئن أنجانا من هذه لنكوننّ من الشاهدين )) ( الأنعام 63 )

وقوله:(( قل الله ينجيكم منها ومن كلّ كرب ثم أنتم تشركون )) ( الأنعام 64 )

وقد وردت صيغتان في الآية الكريمة:ينجيكم – أنجانا، وقدّم الأولى على الثانية لاقتضاء المعنى الذي ينتقي الألفاظ ويحددها، فإن الألفاظ في القرآن نزلت من لدن القدرة الإلهية معبّرة عن معانيها الدقيقة، فإذا وردت مادة بصيغتين أو أكثر، فليس ذلك فراراً من التكرار، وإنما يحدث لأن كل صيغة تعبّر عن معنى لا تعبّر عنه الصيغة الأخرى، مهما تقاربتا [41].

فالصيغة الأولى التي جاءت بالتشديد ( ينجيكم ) إنما جاءت في جناب الله وحقه، وجاءت في صيغة الاستفهام المجاب عنه في الآية التي تلتها مباشرة ( قل الله ينجيكم ) فهي نجاة بالغة العظمة والقدرة، وهي تستمر نجاة بعد نجاة... أما الصيغة الثانية فقد كانت دعاء منهم، وكانت ( أنجى ) دالة على قلّة احتمال حدوث النجاة، فقد سبقها ( لئن ) تأتي لتقليل حدوث فعل الشرط ولهذا بالغوا في جواب ( لئن) عن طريق التوكيد باللام ونون التوكيد الثقيلة:( لنكونن ) رغبة في تقوية حدوث فعل الشرط الذي تتوقف على حدوثه حياتهم [42].

ومن ذلك ما جاء أيضاً في سورة غافر في قوله تعالى:

(( وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلاً أن يقول ربّي الله وقد جاءكم بالبيّنات من ربكم وإن يك كاذباً فعليه كذبه وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذّاب )) ( غافر 28 )

فقدّمت صيغة اسم الفاع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://mathematiquecher.forumactif.com
Admin
Admin
Admin
Admin


ذكر عدد المساهمات : 34923
نقاط : 160659
السٌّمعَة : 1074
تاريخ التسجيل : 14/05/2009
الموقع : http://www.autoformer.net/

الإعجاز البلاغي في التقديم والتأخير Empty
مُساهمةموضوع: تابع   الإعجاز البلاغي في التقديم والتأخير Dc3srhibiyuaw8ppyxj6الثلاثاء أكتوبر 19 2010, 12:11


· الخامس: آداب الاستئذان والضيافة في محيط البيوت وآداب الجماعة المسلمة كلها كأسرة واحدة.

فيعجب المتأمّل من هذا الترتيب المنطقي البديع الذي بدأ أولاً بتطهير المجتمع من الجريمة ووضع العقاب والزجر ليرتدع المجرم، وقدّم ذلك على عرض وسائل الوقاية لتتهيّأ النفس لاستقبال تلك الآداب الوقائية بنفس هادئة وتقبل على أساليبها بحب ممتزج بالخوف من الله، وهذان الموضوعان لازمان للدخول في الحديث عن آداب آخرى يربطها بنور الله

ثم تصوير للآداب المفقودة في حق المنافقين فتقدم على تصوير آداب المؤمنين فبدأ من الأدنى للتنفير منه، ثم للأعلى ليشحذ الهمم وتنشط النفس وترغيبها بعد ترهيبها.

يتقدّم تنظيم العلاقات الأسرية الصغيرة داخل البيوت، لأن ذلك هو النواة والأساس الذي ينى عليه بعد ذلك تنظيم العلاقات بين الأسرة الكبيرة في المجتمع المسلم ككل... فيتقدّم قوله تعالى:(( يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوّافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبيّن الله لكم الآيات والله عليم حكيم )) ( النور 58 ) وهي الأسرة الصغيرة، على قوله تعالى:(( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم )) ( النور 62 ) (وهي الأسرة الكبير ).

وفي وسط هذه الآداب تأتي استراحة قصيرة – إن صح التعبير – ليمضي السياق في عرض مشاهد الكون ومظاهر الوجود الجميل والتأمّل في تقلّب الليل والنهار وعرض مظاهر القدرة على الخلق والتنويع في أشكال الخلق ( وذلك في الآيات من 41 – 45 ) لتتوسط هذه الوقفة الكونية ما سبقها من آداب وتعاليم وما لحقها من آداب وتعاليم، فهذه السورة نموذج من ذلك التنسيق، لقد تضمّنت بعض الحدود إلى جانب الاستئذان على البيوت، وإلى جانبها جولة ضخمة في مجال الوجود، ثم عاد السياق يتحدث عن حسن أدب المسلمين في التحاكم إلى الله ورسوله وسوء أدب المنافقين إلى جانب وعد الله الحق للؤمنين بالاستخلاف والأمن والتمكين، وها هو ذا يعود إلى آداب الاستئذان في داخل البيوت إلى جانب الاستئذان من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وينظم علاقة الزيارة والطعام بين الأقارب والأصدقاء إلى جانب الأدب الواجب في خطاب الرسول ودعائه [55].

التقديم والتأخير في المتشابه:

قد تأتي بعض الآيات متشابهة في كلماتها ولكننا نجد كلمة قدمت في آية وأخرت في أخرى لسر بلاغي أودعه الله في السياق، وسوف نقف – بإذن الله وتوفيقه – مع بعض هذه النماذج القرآنية التي وردت عبر السور المختلفة.. ومن ذلك قوله تعالى:(( واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون )) ( البقرة 123 )

فالآيتان من مشاهد القيامة وساحة القضاء الأعلى، وقد سُبقت الآيتان بآية تامة التشابه متحدة الكلمات وانتظامها، وهي قوله تعالى:(( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأنّي فضّلتكم على العالمين )) ( البقرة 47 ) (( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأنّي فضّلتكم على العالمين )) ( البقرة 122 )

وهذا التكرار للحثّ على التذكّر للنعمة والتحذير من الإعراض عن الله ورسوله، فاليهود أمّة جبلت على العناد والتّمرّد وذلك على الرغم من أنّهم أكثر الأمم رسلاً وأنبياء، وقدّم الشفاعة في السياق الأوّل ( آية 48 ) قطعاً لطمع من زعم أن آباءهم تشفع لهم، وأن الأصنام شفعاؤهم عند الله، وأخّرها في الآية الأخرى ( 123 ) لأن التقدير في الآيتين معاً لا يقبل منها شفاعة فتنفعها تلك الشفاعة، لأن النفع بعد القبول، وقدم العدل في الآية الأخرى ليكون لفظ القبول مقدّماً فيها[56].

ومما يشدّ من أزر ذلك المعنى الذي يبرز قطع الأمل في تلك الشفاعة، أنه جاء بـ ( يوماً ) على التنكير للتهويل ودفع النفس نحو الخوف والحذر، ونكر النفس مرتين للدلالة على العموم والشمول لكل نفس، وهو الإقناط الكلي القاطع للمطامع[57]، وقد جاء بالفعل ( يُقبل ) مع ( شفاعة ) لأنها محلّ القبول على سبيل الرحمة والرأفة، وجيء بالفعل ( يؤخذ) مع ( عدل ) لأن ذلك على سبيل الفداء[58] ومن ذلك قوله تعالى:(( وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغداً وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطّةٌ نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين )) ( البقرة 58 )

وقوله تعالى:(( وإذا قيل لهم اسكنوا هذه القرية وادخلوا منها حيث شئتم وقولوا حطةٌ وادخلوا الباب سجداً نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين )) ( الأعراف 161 )

ففي الآية الأولى:(( وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطةٌ )) وفي الآية الثانية ( وقولوا حطةٌ وادخلوا الباب سجداً ))

وقف الزمخشري على هذا الاختلاف على استحياء ولم يشأ الدخول في غماره وأعماقه، فاكتفى بقوله:لا بأس باختلاف العبارتين إذا لم يكن هناك تناقض، ولا تناقض بين قوله ( اسكنوا هذه القرية وكلوا منها ) وبين قوله ( فكلوا) لأنهم إذا سكنوا القرية فتسببت سكناهم للأكل منها، وسواء قدّموا الحطة على دخول الباب أو أخروها فهم جامعون في الإيجاد بينهم، وترك الرغد لا يناقض إثباته [59].

والحق أن السياق اختلف فأدّى إلى معان بلاغية دقيقة، فقد جاء صدر الآية في السياق الأول بالفعل المبني للمعلوم بإثبات ( نا ) لله تعالى على التعظيم فقالوا:( وإذ قلنا ) فناسب ذلك المقام ذكر ( رغداً ) على التنكير التفخيمي.. ولما كان الدخول في قوله:( ادخلوا هذه القرية ) غير السكن في قوله:( اسكنوا هذه القرية ) لأن السكن يعني اللبث والإقامة والاطمئنان، فقد جاء في السياق الأول الفاء في (فكلوا ) والثاني ( وكلوا )... وقدّم ( وادخلوا الباب سجداً) على قوله:( وقولوا حطة ) في سورة البقرة وأخّرها في الأعراف لأن السابق في هذه السورة ( ادخلوا ) فبيّن كيفية الدخول.. وفي هذه السورة ( أي سورة البقرة ) ( وسنزيد ) بواو، وفي الأعراف ( سنزيد ) بغير واو، لأن اتصالها في هذه السورة أشد لاتفاق اللفظين. واختلفا في الأعراف فكان اللائق به ( سنزيد ) فحذف الواو ليكون استئنافاً للكلام[60].

ومن التقديم في المتشابه قوله تعالى:(( ختم على الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم )) ( البقرة 7 )

وقوله تعالى:(( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضلّه الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تتذكرون )) ( الجاثية 23 )

في آية البقرة جاء الحديث قبلها عن المتقين ثم الكافرين الذين ختم الله على قلوبهم التي هي المضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، كما جاء في الحديث الشريف، فكان الكلام في هذه الآية على عمومه... أما في آية الجاثية فهي تتكلم عن خاصة بعينها تقع في فئة من الناس، يتّخذون العبادة بأهوائهم، ومن القراءات:( إلهه هواه ) فينتقلون في عبادتهم من حجر إلى حجر أو غيره حسبما يتراءى لهم... فناسب ذلك تقديم الختم على السمع لأنه سمع التعقّل والهداية وهو أداة ووسيلة لنقل الفهم، كما جاء في قوله تعالى:(( ولهم آذان لا يسمعون بها )) ( الأعراف 179 )

ومن ذلك قوله تعالى:(( وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين )) ( القصص 20)

وقوله تعالى:(( وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين )) ( يس 20 )

بداية نرى صدر الآية جاء بـ ( جاء ) دون ( أتى ) لأن ( جاء ) تحيط به معاني العلم واليقين وتحقق الوقوع والقصد[61].. وبالنظر إلى الآيتين نجد تقديم ( رجل ) في الأولى وتأخير في الثانية لاختلاف المقام فيهما ففي الآية الأولى تقدم ( رجل ) لتسليط الضوء عليه ولفت الذهن إليه وما يحمله من نبأ المؤامرة، بوصوله إلى موسى عليه السلام يتغير الموقف ويخرج موسى متخفياً مترقّباً.. أما في الآية الثانية فالمقام يقتضي تسليط الضوء ولفت الانتباه إلى المدينة بصفة أساسية لا إلى الرجل، فتظهر المدينة على غفلتها وعدم إتباعها المرسلين ثم إرادة الرجل هدايتهم... فتأخر الرجل هنا يبين أنه لم يكن محتاجاً للسرعة والعجلة ومسابقة الزمن بالقدر العظيم الذي كان يحتاجه المقام الأول... ومن هنا يتبين بعد ما ذهب إليه الكرماني في قوله:خصت في هذه السورة ( أي القصص ) بالتقديم لقوله قبله:فوجد فيها رجلين ثم قال ( وجاء رجل) فاكتفى بالنظر إلى التقديم على أساس ذكر الرجلين من قبل لا غير !

ومن ذلك قوله تعالى:(( وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرّتهم الحياة الدنيا وذكّر به أن تُبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله وليٌّ ولا شفيعٌ وإن تعدل كلّ عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أُبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون )) ( الأنعام 70 )

وقوله:(( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفّار نباته ثم يهيج فتراه مصفرّاً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلّا متاع الغرور )) ( الحديد 20 )

وقوله تعالى:(( وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون))(العنكبوت64) فآيتا الأنعام والحديد في معرض الحديث عن الدنيا وأحوالها، وفي تدرّج من الأدنى إلى الأعلى فاللعب أولى مراحل الطفولة، والتكاثر في الأموال والأولاد نهاية المطلب وقمة اعتلاء عروش الدنيا... أما آية الحديد فهي في معرض المقابلة بين الدنيا والآخرة، فالأولى لهو ولعب والثانية هي الحياة البالغة، وكان لأسلوب المقابلة هنا حسن التنسيق والإيقاع الجميل، وهي من جملة طرق العرض التي يلجأ إليها القرآن، وهي متكاملة متجانسة مع بقية الأساليب لأداء الأغراض والقيم التي يريدها المنهج القرآني، لكنها تعد من أبرز الطرق الواضحة في العرض، وفي الأداء البياني الذي يسعى إليه القرآن[62]، وقال الكرماني بدأ بذكر اللهو لأنه في زمان الشباب، وهو أكثر من زمان اللعب وهو زمان الصبا[63].

ومن ذلك قوله تعالى:(( قالوا أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين )) ( المؤمنون 82-83 )

وقوله تعالى:(( وقال الذين كفروا أئذا كنا تراباً وآباؤنا أئنا لمخرجون لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين )) ( النمل 67-68 )

بتأخير اسم الإشارة ( هذا ) في الأولى، وتقديمه في الثانية ولعل ذلك راجع إلى التفصيل المذكور في آية المؤمنين الموت والتراب والعظام، فأغنى التفصيل عن تقديم اسم الإشارة، وهو لم يقع في آية النمل، وبقي أن نشير إلى أن الآيتين قد صدّرتا بالقول:( قالوا ).... ( وقال ) إشارة إلى أنه زعم باطل ليس له رصيد من اليقين والحق، ثم يصوّر القرآن الكريم مدى اعتمال الانفعال في نفوسهم وإصرارهم على العناد وذلك عن طريق أسلوب القصر بالنفي والاستثناء وبالأداة ( إن ) إيثار على ( ما ) مثلاً.

ومن ذلك قوله تعالى:(( فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضّل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة مّا سمعنا بهذا في آبائنا الأولين )) ( المؤمنين 24 )

وقوله:(( وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذّبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون )) ( المؤمنون 33 )

فقدّم ( الذين كفروا ) على ( من قومه ) في الآية الأولى، وأخّر في الثانية، وذلك لاختلاف المقام وتباين السياق بينهما ففي الأولى صرّح بذكر الرسول فقال:(( ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قوم... )) ( المؤمنون 23 ) وكرّر ذكر القوم مرتين وأضاف ( قوم ) إلى ضمير نوح لأنه أرسل إليهم فلهم مزيد اختصاص به، ولأنه واحد منهم وهم بين أبناء له وأنسباء، فإضافتهم إلى ضميره تعريف لهم إذ لم يكن لهم اسم خاص من أسماء الأمم الواقعة من بعد[64].

بينما تقدّم ذكر ( قومه ) على ( الذين كفروا ) في الثانية لأنها سبقت بذكر الرسول المرسل منكراً فقال تعالى:(( فأرسلنا فيهم رسولاً منهم )) ( المؤمنون 32 ) وهم قوم هود، فاحتيج إلى تقديم قومه الذين لم يذكروا صراحة ولو مرة واحدة في الآية 32.

وربما كان تقديم ( وقال الملأ الذين كفروا ) لاختصاص القول بهم وشموله لهم وبيان أثر قولهم في قومه وفي الناس كافة، إذ لم يؤمن معه إلا قليل كما جاء صريحاً في القرآن (( وما آمن معه إلا قليل)) ( هود 40 ) وجاء تقديم ( وقال الملأ من قومه... ) لاختصاص القول بقومه – قوم عاد – وبيان أثرهم في الناس. والله تعالى أعلم

الخاتمة:

إن القرآن الكريم معين لا ينضب وجنة فيحاء لا ينقضي ثمرها، بل يظل ملء السمع والبصر، يملك الفؤاد ويستولى على العقل والوجدان... وإننا بعد هذا التطوّف الّذي منّ به الرحمن نذكر من النظرات ما يأتي:

أولاً: إن الإعجاز البلاغي لأسلوب التقديم والتأخير إعجاز فيّاض عظيم التدفّق لا يقع في حصر.. وسبيل التعرّض لفيوضاته وتلمّس أسراره لا يقف عند حد في كلمة أو جملة، بل يشهد السياق في مجمله بستاناً مورقاً يانع الثمار والأزهار، لا تكاد تمد يداً لقطف ثمرة إلا وتجذبك الأخرى والأخرى فلا تستطيع الفراغ حتى تأتي على البستان كلّه.

ثانياً: الألفاظ القرآنية لها دلالتها في سياق الجملة فلا يمكن أن يرادف لفظٌ لفظاً آخر فيتساوى معه في المعنى تمام المساواة، بل إن الكلمة ذاتها لتتكرر في أكثر من سياق لتدلّ على معنى آخر مغاير في كل سياق، فإذا نظرنا إلى دلالة الكلمة المختارة في ظل تقديمها أدّى ذلك إلى إبراز المعنى في قوّة وجلاء، وساعد على تصوير المشهد في تدفّق وحياة.

ثالثاً: كان لأسلوب التقديم سمة أسلوبية بالغة الأثر في معرفة خواص تراكيب الكلام وكشف خبايا النفس والنفوذ إلى أعماقها وتصوير شخصيات المشهد في صورة حضورية تبيّن ما عليها من فرح أو ترح أو اضطراب أو توتر أو إيمان أو نفاق أو نحو ذلك.

رابعاً: كان لأسلوب التقديم والتأخير سمة التغلغل والانتشار في كافّة سياقات القرآن – تقريباً – وكان له دور بارز في آيات الأحكام وأساليب الحوار لا يقلّ بحال عن دوره في الآيات المكّيّة وما حملته من مشاهد القصص أو الآخرة.

خامساً: استطاع أسلوب التقديم أن يخاطب العقل والوجدان في آن معاً، وكان له القدرة على حمل السامع أو القارئ على المشاركة في تفعيل الموقف القرآني وما يبثّه من معان وآداب رفيعة، فنشّط الخيال وحرّك الأذهان والعقول.

سادساً: لا يقف التقديم والتأخير عند حد جزيئات اللغة من كلمات وجمل يقدّم بعضها على بعض وإنما يمتدّ ليشمل الآيات والموضوعات الكبرى التي جاء في ترتيبها توقيفاً من عند الله تعالى بإجماع العلماء، وما كان لآية أن تسبق أختها أو موضوع هو سابق لأخيه إلا لنكتة بلاغية ودلالة معنوية يثبتها السياق في مضمونه وبين طياته.

قال تعالى : {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا}.
فعطف "المقيمين" على "المؤمنون" والقاعدة أنَّ العطف يوجب الاتحاد في الحكم ، فإمَّا أن تكون مرفوعة جميعًا وإما أن تكون منصوبة جميعًا، فما السرُّ في ذلك؟
كسر الإعراب أو "القطع" ، في لغة العرب يكون لنُكَتة بلاغيَّة، فهو أسلوب شائع في كلام العرب، وقد أشار إليه أئمة النحو في كتبهم، فعلى سبيل المثال يقول ابن عقيل ، رحمه الله ، في شرحه على الألفية :
"وإن لم يكونا مفردين ، بأن كانا مركبين ، (أي : الاسم واللقب) ، نحو : عبد الله أنف الناقة ، أو مركبا ومفردا نحو : عبد الله كرز ، (والكرز : هو القصير عظيم البطن والله أعلم) ، وجب الإتباع ، فتتبع الثاني ، "أي : اللقب" ، الأول ، "أي : الاسم" في إعرابه ، ويجوز القطع إلى الرفع أو النصب ، (وهذا شاهد كلامنا) ، نحو : مررت بزيد أنفُ الناقة ، برفع أنف ، على إضمار مبتدأ ، فيكون تقدير الكلام : مررت بزيد هو أنفُ الناقة ، والنصب على إضمار فعل ، والتقدير : مررت بزيد أعني أنفَ الناقة ، والقطع في لغة العرب لا يكون إلا إلى الرفع والنصب فلا قطع إلى الجر ، فيصح أن تقول : هذا زيد أنفَ الناقة ، بالقطع إلى النصب ، ولا يجوز القطع إلى الجر ، والله أعلم. ينظر شرح ابن عقيل ، تحقيق الشيخ محمد محيي الدين 1/104
والقطع في المثال السابق للذم ، ولذلك فإن الأنسب في القطع إلى النصب أن يكون العامل المقدر دالا على الذم نحو : مررت بزيد أذم ، أو : أخص بالذم أنفَ الناقة .
وحذف المبتدأ عند القطع إلى الرفع من مواضع حذف المبتدأ وجوبا ، وإليه أشار ابن عقيل ، رحمه الله ، بقوله: "الأول ، (أي : من مواضع حذف المبتدأ وجوبا) : النعت المقطوع إلى الرفع : في مدح ، نحو : "مررت بزيد الكريمُ" أو ذم ، نحو : "مررت بزيد الخبيثُ" أو ترحم ، نحو : "مررت بزيد المسكينُ" فالمبتدأ محذوف في هذه المثل ونحوها وجوبا ، والتقدير : (هو الكريم ، وهو الخبيث ، وهو المسكين)" . اهـ ينظر شرح ابن عقيل1/209
ويقول إمام النحاة ابن هشام ، رحمه الله ، في أوضح المسالك: "ثم إن كان اللقب وما قبله مضافين ، كــ : عبد الله زين العابدين ، أو كان الأول مفردا والثاني مضافا كـــ : كزيد زين العابدين ، أو كانا العكس ، كـــ : عبد الله كرز ، أتبعت الثاني للأول : إما بدلا ، أو عطف بيان ، أو قطعته عن التبعية ، (وهو : شاهدنا في هذا الموضع) ، إما برفعه خبرا لمبتدأ محذوف ، أو بنصبه مفعولا لفعل محذوف. بتصرف من "أوضح المسالك" ، ص53 .
ففي قولك : مررت بعبد الله زين العابدين ، إما أن تتبع "زين" ، لـــ : "عبد" المجرورة ، فتجرها كبدل أو عطف بيان ، بدليل جواز إتيان الثانية محل الأولى دون أن يختل المعنى فتقول : مررت بزين العابدين ، فــ "زين العابدين" هو "عبد الله" و "عبد الله" هو "زين العابدين" .
وأما القطع : فقد سبقت الإشارة إليه في كلام ابن عقيل ، رحمه الله ، فالرفع بتقدير مبتدأ محذوف تقديره : هو ، والنصب بتقدير فعل محذوف : أعني ، والله أعلم .
وعليه يحمل قولك : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، برفع ونصب "الرجيم" ، فتقدير الرفع : أعوذ بالله من الشيطان هو الرجيمُ ، وتقدير النصب : أعوذ بالله من الشيطان أذم الرجيمَ ، من الذم ، فالفعل المقدر يجب أن يكون مناسبا للسياق ، والسياق هنا سياق ذم ، والله أعلم .
ومنه أيضا :قوله تعالى : {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} ، بقطع : "أهلَ" إلى النصب مدحا لدلالة السياق على ذلك ، فيكون تقدير الكلام : أعني أهلَ البيت ، أو أخص بالمدح أهلَ البيت.
وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "نحن معاشرَ الأنبياء لا نورث ، ما تركنا صدقة"
فالنصب على الاختصاص ، فيؤول الكلام إلى : نحن أخص بالذكر : معاشرَ الأنبياء ...
وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إنا آلَ محمد لا تحل لنا الصدقة" فالنصب على الاختصاص أيضا ، فيؤول الكلام إلى : نحن أخص بالذكر : آلَ محمد .....................
ففي كل ما سبق بيان لجواز القطع في لغة العرب من جهة: الصناعة النحوية.

فيقال في الآية محل البحث:

وقع القطع في السياق مرتين : {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}
فالسياق ابتداء جارٍ على الرفع : "الراسخون" و "المؤمنون" ، ثم قطع إلى النصب على الاختصاص في : "والمقيمين" ، ثم قطع إلى الرفع مرة أخرى ليرجع السياق إلى ما كان عليه ، بتقدير مبتدأ محذوف لـــ : "المؤتون" ، فيكون تقدير الكلام : وأخص بالذكر المقيمين الصلاة ، ثم يقطع إلى الرفع بتقدير : وهم المؤتون الزكاة .
وأما من جهة الصناعة البلاغية: فإن الكسر أو القطع في الإعراب ، يلفت نظر السامع إلى معنى جديد في الكلام ، فهو بمثابة جرس إنذار يسترعي انتباه القارئ لنكتة في هذا الموضع من السياق ، إما أن تكون مدحا أو ذما أو تحذيرا أو ............... إلخ .
فمن أمثلة الذم:
قوله تعالى : {وامرأته حمالةَ الحطب} بنصب حمالةَ ، فتقدير الكلام : وامرأته أعني حمالةَ الحطب ، أو : وامرأته أذم حمالةَ الحطب ، والله أعلم .
ومن أمثلة التحذير:
قوله تعالى : {فقال لهم رسول الله ناقةَ الله وسقياها} ، بنصب "ناقةَ" ، فسياق الكلام ، للوهلة الأولى ، يرجح رفع : "ناقة" ، لأنها صدر جملة مقول القول ، ولكنها نصبت هنا على التحذير ، كما أشار إلى ذلك القرطبي ، رحمه الله ، فتقدير الكلام : احذروا ناقةَ الله ، أو : احذروا أن تمسوا ناقةَ الله بسوء ، والله أعلم .
ومن أمثلة المدح :
الآية التي بين أيدينا ، فتقدير الكلام : لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وأخص بالذكر أو أمدح المقيمين الصلاة .......... ، والله أعلم .
وحديث كعب بن عجرة ، رضي الله عنه ، عند الطبراني ، رحمه الله ، في "المعجم الكبير" ، وفيه : "نَحْنُ مَعَاشِرَ الأَنْصَارِ آمَنَّا بِهِ، وَاتَّبَعْنَاهُ، وَقَاتَلْنَا مَعَهُ" ، فالنصب على الاختصاص مدحا .
قال الزمخشري في الكشاف: "و{وَالمقيمين} نصب على المدح لبيان فضل الصلاة، وهو باب واسع ، وقد كسره سيبويه على أمثلة وشواهد ، ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحناً في خط المصحف، وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان ، وغبي عليه أنّ السابقين الأوّلين الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام وذبّ المطاعن عنه ، من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدّها من بعدهم وخرقاً يرفوه من يلحق بهم . وقيل : هو عطف على { بِمآ أُنزَلَ إِلَيْكَ } أي يؤمنون بالكتاب وبالمقيمين الصلاة وهم الأنبياء . وفي مصحف عبد الله : «والمقيمون»، بالواو . وهي قراءة مالك بن دينار ، والجحدري ، وعيسى الثقفي" . اهـ

القراءات الواردة في الآية

في الآية قراءتان الأولى بالنصب "والمقيمين"وفيها ستة أقوال، والثانية بالرفع "والمقيمون" وفيها سبعة أوجه:
الأول: أنه منصوبٌ على القطع، وهو مذهب البصريين ،لأدلة سماعية مأثورة عن العرب منها:
ويأوي إلى نسوة عطـــــل *** وشعثـًا مراضيعَ مثل السعالى
ووافقهم في ذلك الفراء والنحاس والزجاج والزمخشري وابن هشام وأبو حيان، وهذا القول هو المرجح عند كثير من المحدثين. واللطيفة في النصب على المدح لبيان عظم شأن الصلاة.
أما الكوفيون فقد تأولوا الآية ، وذهبوا إلى منع جواز نصب "والمقيمين" على المدح ، لأنهم لا يجيزون النصب على المدح قبل تمام الكلام ؛ والخبر في الآية عندهم أتى متأخرا عن الكلمة المقصودة.
الثاني: أن يكونَ معطوفاً على "ما" في "بما أُنْزِل"، وإليه ذهب الكسائي وتبعه السيرافي ، وأيده الطبري ، فيكون التقدير :"والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، وبالمقيمين الصلاة" وهم الأنبياء أو الملائكة أو المذهب والدين، على اختلاف بين المفسرين القائلين بهذا التأويل، أو الناقلين له . واختار هذا القول أيضا مكي بن أبي طالب ، وابن هشام .
الثالث: أن يكونَ معطوفاً على الكاف في "من قبلك"، والتقدير : (وما أنزل من قبلك ومن قبل المقيمين الصلاة) . وممن ذكره وأجازه القرطبي ، ومكي بن أبي طالب.
الرابع: أن يكونَ معطوفاً على الضمير في "منهم"، فيكون التقدير : (ولكن الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين الصلاة) ، وممن أجاز هذا الوجه مكي بن أبي طالب.
الخامس: أن يكون معطوفاً على الكاف في "إليك"، والتقدير: (والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك .......... وإلى المقيمين الصلاة) وهم الأنبياء، وممن أجازه العكبري ، والقرطبي.
السادس: تضمين "لكن" بالنسبة إليها لفظ "إلا"، فتعمل عملها في النصب . ويكون أن المعنى أن "المقيمين الصلاة" مستثنون ممن أعد الله لهم العذاب الأليم المذكورين في الآية السابقة ، وذكره البقاعي ، وأجازه على بُعد.
ويظهر أن المذهب الراجح هو النصب على المدح ، وقال به جمهور البصريين، ووافقهم جماعة من الكوفيين لما يلي :
1- السماع من العرب.
2- لا دليل على منع النصب على المدح قبل تمام الكلام.
3- احتمال أن يكون الخبر في الآية هو جملة "يؤمنون" وعليه فالكلام تام، ولا وجه للاعتراض.
وصلى الله علي سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
تنبيه: ليس لي في هذا البحث إلا التجميع والتهذيب من مقالات منشورة فأحببت أن أنظمها في بحث واحد حتى تكمل الفائدة
مرسلة بواسطة عمر خطاب عمر الرشيدي في 10:09 ص 0 التعليقات
22 ديسمبر, 2009
من أسرار النظم القرآني في قوله تعالى: { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا }
من أسرار النظم القرآني في قوله تعالى: { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا }
قال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} [الإنسان6 ) وقال أيضا: (يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} (المطففين : 28)
يقال: من معلوم أن العين لا يشرب بها بل يشرب منها، إلا أن القرآن الكريم عبر بلفط (بها) ولم يقل عينا يشرب مائها عباد الله أو غيرها، فما تفسير هذا؟

الإجابة

في قوله تعالى: { يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ} عدّى الفعل بـ (مِنْ) وفي المقرّبين عدّى الفعل بالباء { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} وفي هذا دلالة على أن جزاء المقربين أعلى من جزاء الأبرار، فكما يقال: (حسناتُ الأبرار سيئات المقرّبين)، ويدلنا على ذلك جملة أمور، وهي:
أولاً: بالنسبة للأبرار يُؤتى بكأس يشربون منها أما المقرّبون يشربون بها ، وهي تفيد الإلصاق بمعنى أقام بالعين وشرب بها ، فإذن صار التلذذ بالنظر وبالشراب.
ثانياً: الأبرار يشربون من كأس ممزوجة بالكافور وليست خالصة {يشربون من كأس كان مزاجها كافورا} وهي تُمزج بقدر أعمالهم في الدنيا أما المقرّبون فيشربون من العين صرفة خالصة ليست ممتزجة.
ثالثاً : عدّى الفعل بالباء تدل على تضمين معنى روي به (يشرب به) بمعنى يرتوي به على خلاف الشرب الذي لا يدل على الارتواء ، فالتعدية بالباء تدل على نزول في المكان والشرب الخالص والارتواء منها.
رابعاً : قال تعالى في عباد الله : {يفجرونها تفجيرا} بمعنى يُجرونها حيث شاءوا ، ويقال في الآية أنه معهم قضبان من ذهب في أيديهم يجرونها حيث شاءوا ، وهذا يدل على أنه ليس فيها عناء ولكنها تتم بسهولة، وهناك فرق بين جزاء الأبرار وجزاء المقرّبين.
ومن المعلوم بالضرورة أن العين الجارية يشربُ منها، لا بها، فهي مورد الشرب، لا أداته، ووسيلته، ومعلوم كذلك أن الشرب يُشَارُ به إلى العملية الآلية المعروفة من رفع الماء نحو فم الشارب وشربه على نحو من الأنحاء ، ولكن هذه العملية لا تعني حصول الأثر المرجوّ منها، وهو الإحساس بالارتواء في النفس، ولما كان الشارب من هذه العين في الجنة يحصل له أثرها المباشر في النفس من غير فاصل زمني، بين شربه وإحساسه بالريّ النفسي، ولَمَّا كان الفعل يشرب هنا قد ضُمِّنَ معنى الفعل يرتوي؛ عدّى القرآن الكريم الفعل "يشربُ" بما يتعدى به الفعل "يرتوي" ، إذ حصل الثاني وتحقق مع الأول على نحو تزامني، وبذلك يكون المعنى المقصود: عينا يشرب منها فيرتوي بها المقربون، وهذا وجه امتياز الشرب من هذه العين عما عداها من سائر العيون، فثمة هنالك شاربون كثيرون، بالمعنى الإجرائيِّ الآليِّ لهذه العملية، ولكنهم لا يرتَوُون، فليس كل شارب مرتويًّا. نسأل الله تبارك وتعالى أن يسقينا بهذه العين لذةً وريًّا أبدا.
قال الطاهر ابن عاشور في تفسيره:
الباء في قوله: {يشرب بها} إما سببية ، وعُدي فعل{يشرب} إلى ضمير العين بتضمين {يشرب} معنى : يمزج ، لقوله: {ومزاجه من تسنيم} أي يمزجون الرحيق بالتسنيم.
وإمَّا باء الملابسة وفعل {يشرب} معدّى إلى مفعول محذوف وهو الرحيق ، أي يشربون الرحيق ملابسين للعين ، أي محيطين بها وجالسين حولها.
أو الباء بمعنى ( مِن ) التبعيضية ، وقد عده الأصمعي والفارسي وابن قتيبة وابن مالك في معاني الباء ، وينسب إلى الكوفيين ، واستشهدوا له بهذه الآية ، وليس ذلك ببيّن ، فإنّ الاستعمال العربي يكثر فيه تعدية فعل الشرب بالباء دون ( مِن ) ، ولعلهم أرادوا به معنى الملابسة ، أو كانت الباء زائدة كقول أبي ذؤيب يصف السحاب
... شَرْبنَ بماء البحر ثم ترفَّعت
متَى لُجَج خُضر لَهُن نَئيجُ ...
مرسلة بواسطة عمر خطاب عمر الرشيدي في 02:01 م 0 التعليقات
15 ديسمبر, 2009
الحاجة إلي دراسة علوم البلاغة
الحاجة إلى دراسة علوم البلاغة

ترجع الحاجة إلى دراسة علوم البلاغة العربية إلى أمور ثلاثة:

الأول: أن الناظر في هذه الفنون والمدرك لها، والحائز لملكتها يقف عن يقين، لا يشوبه تردد على جهة إعجاز القرآن الكريم بالتفصيل وهي جهة دلالته اليقينة على صدق محمد صلي الله عليه وسلم فيكون بذلك مؤمنا عن عقيدة لا عن تقليد وعن برهان لا عن محاكاة، وفي ذلك شرف لاغاية وراءه.

الثاني: أن المتمكن من هذه العلوم: أصولها وفروعها يلمس بنفسه دقائق العربية وأسرارها ويدرك مراتب الكلام ومراميه، ومزايا صوره شعرا ونثرا فيهتدي إلى مواطن النقد الصحيح، ومعرفة الجيد من الكلام ورديئه ومن وفق إلى الإحسان من أرباب القول ومن لم يوفق وإلا فكيف يعرف الجاهل بفضول البلاغة وأصولها فضل كلام على كلام وشرف متكلم على آخر ، وكيف يستطيع مثل هذا أن يواز ن بين شاعر وشاعر، أو أن يفاضل بين خطيب وخطيب؟
الثالث: أن الدارس لهذه الفنون الخبير بضوابطها وقوانينها العارف لأصولها وفروعها إذا أراد أن يقول شعرا أونثرا في أي غرض من الأغراض استطاع أن يجد من أمره رشدا، فيصيب الهدف ويدرك القصد ويأتي بما يطابق الحال من الألفاظ والتراكيب ، ويهتدي إلى المستجاد من القول، والمختار من الكلام لأن معه النبراس الذي يستضيء به، ويسير على هداه.

ولو لم يكن لهذه العلوم من سابغ الفضل على ذويها سوي الوصول بهم إلى موضوع السر من إعجاز القرآن وكيف أنه تحدى العرب، وهم ذوولسن وفصاحة، في أبين صفاتهم وأجل سماتهم بما حواه من محكم الصياغة والبلاغة، وبما تضمنه من جوامع الكلم، وروائع الحكم، حتى وقف بنو العروبة ، وحاملوا لوائها أمامه واجمين وخر له أعلام البيان ساجدين لو لم يكن لها سوي هذا الفضل لكان لزاما على عامة أبناء العربية أني ير تضعوا أفاويقها، وينهلوا من مناهلها فما ظنك وقد تعدى خطرها هذا الأمر؟ إنها لتكشف لك عما في الفصحى من كنوز ونفائس لا تقف عند حد، كما تكشف لك عن سر ما لها من فضل التقدم على سائر اللغات، حتى نزل القرآن الكريم فوسعته معني وأسلوبا على ما فيه من روعة وجلال، فكان ذلك شهادة لها بتبوئها مكان الصدارة واستوائها على عرش السيادة.

وهل تراك بالغا أعماق القلوب، مالكا زمام العقول تقويما لعقيدة زائغة أو إحياء لحق مضيع، أو ردًا لشرف مثلوم بغير معونة هذه العلوم؟ أجل فرب كلام أقطع من حسام، وأنفذ من سهام.

وأي أثر ذلك الذي تحسه في نفسك عندما يجري على لسانك اللفظ الأنيق ذو المعني الدقيق ، أو تنعكس على يراعك أشعة الخيال الرائع، والتصوير البارع أتراك لو حيزت لك الدنيا بحذافيرها لقاء أن يعزي إلى غيرك ما أبدعت، أكنت قابلا هذا البدل على جليل خطره وعظيم قدره؟ لك لعمري متعة النفس لا يعدلها شيء في الوجود.

ومن أجل ذلك كله كانت حاجتنا إلى دراسة هذه العلوم، فوق حاجتنا إلى شأن آخر من شئون هذه الحياة، وحسبك منها أن تعرف بها ما للغة آبائك من قوة واعتزاز وما احتواه كتاب ربك، رمز العظمة وآية الإعجاز.

الفوائد التي تترتب على دراسة علوم البلاغة

دراسة علوم البلاغة، مع التزود بقدر واف من منثور العرب ومنظومهم والتأمل الواعي لهذه النصوص الأدبية المختارة، تمكن الدارس من تحقيق الأهداف التي توخاها المؤلفون من علوم البلاغة وخلاصتها:
1) معرفة إعجاز كتاب الله إذ لا يمكن الوقوف على ذلك إلا بدراسة الأساليب العربية ومعرفة الجيد منها والرديء، وأسباب الجودة، وأسباب الرداءة والمقارنة بين الجيد منها، والقرآن قد بهر العرب بحسنه وبراعته، وكمال معانيه، وصفاء ألفاظه، فكانت دراسة هذه العلوم، من هذه الجهة، معينة على معرفة أسرار الإعجاز.

2) القدرة على صوغ أدب جميل رائع فإن المتأدب إذا أراد أن يصنع قصيدة أو ينشئ رسالة أو يكتب رسالة، أو يكتب مقالة أو قصة وقد فاتته هذه العلوم، مزج الصفو بالكدر، ولم يهتد إلى الصورة البديعة، والأساليب الجيدة.

3) القدرة على حسن الاختيار فإذا أراد صاحب العربية أن يختار كلاما منثورًا أو شعرًا منظوما، وتخطى هذه العلوم ساء اختياره فأخذ الردئ المرذول وترك الجيد المقبول.

4) والبيان في ذاته فضيلة ، تسمو على كثير من الفضائل ولذلك نجد النبي صلي الله عليه وسلم مع ما أعطاه الله من العلوم الدينية وخصه بالحكم والآداب الدنيوية، لم يفتخر بشيء من ذلك، فلم يقل أنا أفقه الناس ولا أنا أعلم الخلق بالطب، بل افتخر بما أعطاه الله من الفصاحة فقال:"أنا أفصح من نطق بالضاد".
وحسب العالم- والعالم بالعربية خاصة- من العيب أن يُدعى في الحفل الجامع أو الخطب النازل فلا يستطيع أن يقول:
كفي بالمرء عيبًا أن تراه *** له وجه وليس له لسان
مرسلة بواسطة عمر خطاب عمر الرشيدي في 02:11 م 0 التعليقات
29 يوليو, 2009
تأملات بلاغية في سورة الكوثر
تأملات بلاغية في سورة الكوثر
ما الكوثر؟
{ الكوثر } : اسم في اللغة للخير الكثير صيغ على زِنة فوْعل من الكثرة ، وهو المفرط الكثرة ، وهي من صيغ الأسماء الجامدة غالباً نحو الكوكب ، والجورب ، والحوشب والدوسر ، ولا تدل في الجوامد على غير مسماها ، ولما وقع هنا فيها مادة الكَثْر كانت صيغته مفيدة شدة ما اشتقت منه بناء على أن زيادة المبنى تؤذن بزيادة المعنى ، ولذلك فسره الزمخشري بالمفرط في الكثرة ، وهو أحسن ما فُسر به وأضبطُه ، ونظيره : جَوْهر ، بمعنى الشجاع كأنه يجاهر عدوّه ، والصومعة لاشتقاقها من وصف أصمع وهو دقيق الأعضاء لأن الصومعة دقيقة لأن طولها أفرط من غلظها .
وذكر في معنى الكوثر آراء كثيرة ، فروي عن ابن عباس ، قال سعيد بن جبير فقلت لابن عباس : إن ناساً يقولون هو نهر في الجنة ، فقال : هو من الخير الكثير . وعن عكرمة : الكوثر هنا : النبوءة والكتاب ، وعن الحسن : هو القرآن ، وعن المغيرة : أنه الإِسلام ، وعن أبي بكر بن عَيَّاش : هو كثرة الأمة ، وحكى الماوردي : أنه رفعة الذكر ، وأنه نور القلب ، وأنه الشفاعة ، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم المروي في حديث أنس لا يقتضي حصر معاني اللفظ فيما ذكره .
والصحيح في معنى الكوثر هو ما فسره به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : « هو نهر في الجنة ، حافتاه من ذهب ، ومجراه على الدر والياقوت ، تربته أطيب من المسك ، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج » قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . وفي صحيح مسلم ، واقتطعنا منه ، قال : « أتدرون ما الكوثر؟ قلنا : الله ورسوله أعلم . قال : نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد النجوم » انتهى . قال ذلك عليه الصلاة والسلام عندما نزلت هذه السورة وقرأها .
التحليل البلاغي للسورة
• جَمَع ضميرَ المُتَكَلِّم فقال (إِنَّا) ، وهو يُشْعِرُ بعظم الربُوبِيَّة ، فالعطاءُ يتناسَبُ مع مقام الربوبية المُشَار إليه بضمير التعظيم.
• صدَّر الجملة بحرف التوكيد مجرى القسم للاهتمام بالخبر، والكلام مسوق مساق البشارة وإنشاء العطاء لا مساق الإخبار بعطاء سابق، وأريد من هذا الخبر بشارة النبي صلى الله عليه وسلم وإزالةُ ما عسى أن يكون في خاطره من قول من قال فيه : هو أبتر ، فقوبل معنى الأبتر بمعنى الكوثر ، إبطالاً لقولهم .
• بَنَى الفِعْلَ على المبتدأ فدلَّ على خُصُوصِيَّة وتَحْقِيقٍ.
• أوردَ الفعل الماضي (أعطى) دلالة على أنَّ الكوثر لم يتناول عطاء العاجلة دون عطاء الآجلة، ودلالة على أن التوقع من سيب (عطاء ) الكريم في حكم الواقع.
• جاء بالكوثر محذوف الموصوف، لأن المثبت ليس فيه ما في المحذوف من فرط الإيهام والشياع، والتناول على طريق الاتساع، لذا وردت الأقوال الكثيرة عن العلماء في تفسير الكوثر، فمن قائل نهر ومن قائل الأتباع ومن قائل الذكر.. والكوثر يشمل كل ذلك ويزيد، فهو الخير الكثير الموهوب من الرب العظيم.
• اختيار الصفة المؤذنة بالكثرة (على وزن فوعل).
• أتى بهذه الصفة (الكوثر) مصدّرة باللام المعروفة بالاستغراق ؛ لتكون ما يوصف بها شاملة، وفي إعطاء معنى الكثرة كاملة.
• وفاء التعقيب في الآية الثانية مستفادة من معنى التسبب لمعنيين:
ـ جعل الإنعام الكثير سبباً للقيام بشكر المنعم وعبادته.
ـ جعله لترك المبالاة بقولة العدو.
فإن سبب نزول هذه السورة: ما روي أن العاص بن وائل قال إن محمد صنبورـ والصنبور الذي لا عقب له ـ فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلت هذه السورة.
• قصده بالأمر التعريض بذكر العاص وأشباهه ممن كانت عبادته ونَحْره لغير الله.
• أشار بهاتين العبادتين إلى نوعي العبادات : الأعمال البدنية والصلاة قوامها، والمالية ونحر البدن ذروة سنامها، للتنبيه على ما للرسول صلى الله عليه وسلم من الاختصاص في الصلاة التي جعلت فيها قرة عينه، ونحر الإبل التي كان لا يجارى فيه، فقد روي أنه أهدى مائة بدنة فيها جمل في أنفه برة من ذهب.
• حذف اللام الأخرى لدلالة الأولى عليها. فلم يقل (وانحر له) أو (لربك).
• مراعاة حقِّ السَّجْع الذي هو من جملة صفة البديع إذا ساقه قائله مساقًا مطبوعًا بعيدًا عن التكلّف.
• قوله (لربك) فيه لطيفتان: وروده على طريق الألتفات التي هي (أم) في علم البلاغة. وصرف الكلام عن لفظ المضمر إلى لفظ المظهر وفيه إظهار لكبرياء شأنه وإثباته لعز سلطانه.
• علم بهذا أن من حقوق الله التي تعبّد العباد بها أنه ربهم ومالكهم وعرّض بترك التماس العطاء من عبد مربوب ترك عبادة ربه.
• وفي الآية الثالثة علل الأمر بالإقبال على شأنه وترك الاحتفال بشانئيه على سبيل الاستئناف الذي هو حسنُ الموقع، وقد كثرت في التنزيل مواقعه.
• ويتجه أن نجعلها جملة الاعتراض مرسلة إرسال الحكمة الخاتمة والاعتراض كقوله تعالى: (إن خير من استئجرت القوي الأمين) [القصص: 26]. وعني بالشانئ العاص بن وائل.
• إنما لم يسمه باسمه ليتناول كل من كان في مثل حاله.
• صدّر الجملة بحرف التوكيد الجاري مجرى القسم وعبّر عنه بالاسم الذي فيه دلالة على أنه لم يتوجه بقلبه إلى الصدق، ولم يقصد بلسانه الإفصاح عن الحق بل نطق بالشنآن الذي هو قرين البغي والحسد، وعين البغضاء، ولذلك وسمه بما يُنْبِئُ عن الحقد.
• جعل الخبر معرفة وهو (الأبتر) والشانئ كذلك، ليعلم أنه المعروف لدى الناس يقال له (الصنبور).
• اشتملت سورة الكوثر على نوعي الجملة الخبري والإنشائي ، فالخبري هو : قوله: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ. وقوله: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ. والإنشائي هما، قوله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ. وقوله: وَانْحَرْ، وهما جملتان إنشائيتان طلبيتان.
• اشتملت سورة الكوثر على الوصل والفصل، فجملة "انحر" معطوفة بالواو على جارتها " فَصَلِّ لِرَبِّكَ." وهذا الوصل. وهي منقطعة عن الجملة اللاحقة إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ. وهذا الفصل.
• الضمائر في سورة الكوثر:
استوعبت سورة الكوثر كل أنواع الضمير في اللغة العربية دون أن تغفل الأحوال الإعرابية المختلفة وهذا من العجب العجاب لأننا نضع نصب أعيننا دائما أن عدد مفرداتها لا تتجاوز عدد أصابع الإنسان، وتفصيله:
1- الضمائر بارزة ومستترة:
فمن بارز الضمائر في السورة ما ظهر في فعل "أعطيناك".
ومن مستترة ما كمن في فعل "صل "أو" انحر".
2-الضمائر متصلة ومنفصلة:
ولك في جملة "أعطيناك" مثال على المتصل من الضمائر.
ولك في جملة هو الأبتر مثال آخر على الضمير المنفصل.
3-الضمائر في إحالتها على عناصر الخطاب تنقسم إلى ضمائر المتكلم والمخاطب والغائب.
ولا تحتاج إلى غير سورة الكوثر للتمثيل:
-فضمير المتكلم حاضر في" أعطينا".
-وضمير المخاطب في" أعطيناك" و"ربك" و"شانئك" صريحا، و في"صل" و"انحر"مقدرا.
-وضمير الغائب في "هو" صريحا وفي شانئ مقدرا، فتأمل هذه التناسبات اللطيفة.
4-باعتبار مقولة العدد:
جاء في السورة ضمير المفرد وضمير الجماعة. وقد اجتمعا في كلمة "أعطيناك".
5-الضمائر باعتبار محلها من الإعراب:
جاءت الضمائر في السورة متنوعة بحسب المحل الإعرابي:
- ضمير في محل رفع: (أعطيناك) الضمير الأول فيها فاعل مرفوع.
- ضمير في محل نصب: (أعطيناك) الضمير الثاني فيها مفعول به منصوب.
- ضمير في محل جر: (ربك) الكاف فيها مضاف إليه مجرور.
ومن لطائف السورة في هذا السياق أن الكلمات الدالة على الرب عز وجل ثلاث هي:
- اسم إن.
- فاعل أعطى.
- الرب.
وجاءت على التوالي:
- منصوب
- مرفوع
- مجرور.
وعلى نفس الترتيب الإعرابي جاءت الكلمات التي تدل على الرسول صلى الله عليه وسلم.
- "كاف" أعطيناك منصوبة
- "صل"الضمير المستتر مرفوع.
- "كاف" ربك مجرور.
• الأفعال في السورة:
لم يأت في السورة من الأفعال إلا ثلاثة: "أعطى"-"صلى"-"نحر".
لكنها على قِلَّتها مثلت من المقولات الصرفية والتركيبية عددا كبيرا:
1- الفعل الصحيح: نحر.
2- الفعل المعتل: أعطى.
3- الفعل المضعف: صلى.
4- الفعل المجرد: نحر.
5- الفعل المزيد: أعطى.
6- الفعل اللازم: صلى.
7- الفعل المتعدي إلى مفعول واحد: نحر. 8- الفعل المتعدي إلى أكثر من مفعول: أعطى.
تأملات أخرى مفيدة في السورة
قال الرازي في تفسيره (مفاتيح الغيب) ويسمى : التفسير الكبير:
اعلم أن سورة الكوثر على اختصارها فيها لطائف ، ومنها:
أن هذه السورة كالمقابلة للسورة المتقدمة ، وذلك لأن في السورة المتقدمة وصف الله تعالى المُنَافِقَ بأمور أربعة :
أولها : البخل وهو المراد من قوله : { يَدُعُّ اليتيم وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين } [ الماعون : 2 ، 3 ] الثاني : ترك الصلاة وهو المراد من قوله : { الذين هُمْ عَن صلاتهم سَاهُونَ } [ الماعون : 5 ] والثالث : المراءاة في الصلاة هو المراد من قوله : { الذين هُمْ يُرَاءونَ } [ الماعون : 6 ] والرابع : المنع من الزكاة وهو المراد من قوله : { وَيَمْنَعُونَ الماعون } [ الماعون : 7 ] فذكر في هذه السورة (أي : الكوثر) في مقابلة تلك الصفات الأربع صفات أربعة ، فذكر في مقابلة البخل قوله : { إِنَّا أعطيناك الكوثر } أي إنا أعطيناك الكثير ، فأعط أنت الكثير ولا تبخل ، وذكر في مقابلة : { الذين هُمْ عَن صلاتهم سَاهُونَ } قوله : { فَصَلِّ } أي دم على الصلاة ، وذكر في مقابلة : { الذين هُمْ يُرَاءونَ } قوله : { لِرَبّكِ } أي ائت بالصلاة لرضا ربك ، لا لمراءاة الناس ، وذكر في مقابلة : { وَيَمْنَعُونَ الماعون } قوله : { وانحر } وأراد به التصدق بلحم الأضاحي ، فاعتبر هذه المناسبة العجيبة ، ثم ختم السورة بقوله : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر } أي المنافق الذي يأتي بتلك الأفعال القبيحة المذكورة في تلك السورة سيموت ولا يبقى من دناه أثر ولا خبر ، وأما أنت فيبقى لك في الدنيا الذكر الجميل ، وفي الآخرة الثواب الجزيل .
مرسلة بواسطة عمر خطاب عمر الرشيدي في 12:44 م 3 التعليقات
28 يوليو, 2009
نشأة علوم البلاغة
العلوم كالكائنات الحية ، تبدأ صغيرة ثم تنمو، وتبلغ أشدها ولا نعرف علما، من علوم العربية شذ عن هذه السنة إلا علم العروض فإن الخليل بن أحمد الفراهيدي أظهره تَامًّا، ولا نعرف له سلفًا قبله.وعلوم البلاغة لم توجد كاملة كما نراها الآن وإنما مرت بالأطوار التي مر بها كل علم وسنوجز هنا المراحل التي مرت بها.
أولا: مراحل النقد:
في كل مجتمع يوجد فيه شاعر أو كاتب أو خطيب يوجد من يستحسن الكلام، ومن يستهجنه، وقد يعبر هذا عن سبب استحسانه وهذا عن سبب استهجانه، وهذا ما يسمي بالنقد، وقد وجد هذا النقد مبكرا في الجاهلية الأولي ووصلتنا روايات فيها نقد لطائفة من الشعراء، وقد كان العرب في الجاهلية يفدون إلى سوق عكاظ يتناشدون الأشعار ويتحاكمون فيها إلى رجل من شعرائهم يثقون في ذوقه وفي حكمه، وكان النابغة الذبياني الشاعر المشهور، أحد حكام العرب في عكاظ.
ولم يكن المسلمون أقل إداركا لجيد الكلام من الجاهليين ... رووا أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يُقَدِّمُ زهير بن أبي سلمي، وكان يُعَلِّلُ رأيه بأن زُهَيْرًا كان لا يُعَاظِلُ في المنطق، ولا يتتبع الغريب الحوشي ولا يمدح الرجل إلا بما هو فيه، فنري
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://mathematiquecher.forumactif.com
 
الإعجاز البلاغي في التقديم والتأخير
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الإعجاز البلاغي في التقديم والتأخير
» الإعجاز البلاغي في التقديم والتأخير
» من صور الإعجاز البلاغي في القرآن
» دلائل الإعجاز الجرجاني
» موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الشرقاوي وافق ::  المواد الادبية :: العربية :: الثانوي-
انتقل الى: