· الخامس: آداب الاستئذان والضيافة في محيط البيوت وآداب الجماعة المسلمة كلها كأسرة واحدة.
فيعجب المتأمّل من هذا الترتيب المنطقي البديع الذي بدأ أولاً بتطهير المجتمع من الجريمة ووضع العقاب والزجر ليرتدع المجرم، وقدّم ذلك على عرض وسائل الوقاية لتتهيّأ النفس لاستقبال تلك الآداب الوقائية بنفس هادئة وتقبل على أساليبها بحب ممتزج بالخوف من الله، وهذان الموضوعان لازمان للدخول في الحديث عن آداب آخرى يربطها بنور الله
ثم تصوير للآداب المفقودة في حق المنافقين فتقدم على تصوير آداب المؤمنين فبدأ من الأدنى للتنفير منه، ثم للأعلى ليشحذ الهمم وتنشط النفس وترغيبها بعد ترهيبها.
يتقدّم تنظيم العلاقات الأسرية الصغيرة داخل البيوت، لأن ذلك هو النواة والأساس الذي ينى عليه بعد ذلك تنظيم العلاقات بين الأسرة الكبيرة في المجتمع المسلم ككل... فيتقدّم قوله تعالى:(( يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوّافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبيّن الله لكم الآيات والله عليم حكيم )) ( النور 58 ) وهي الأسرة الصغيرة، على قوله تعالى:(( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم )) ( النور 62 ) (وهي الأسرة الكبير ).
وفي وسط هذه الآداب تأتي استراحة قصيرة – إن صح التعبير – ليمضي السياق في عرض مشاهد الكون ومظاهر الوجود الجميل والتأمّل في تقلّب الليل والنهار وعرض مظاهر القدرة على الخلق والتنويع في أشكال الخلق ( وذلك في الآيات من 41 – 45 ) لتتوسط هذه الوقفة الكونية ما سبقها من آداب وتعاليم وما لحقها من آداب وتعاليم، فهذه السورة نموذج من ذلك التنسيق، لقد تضمّنت بعض الحدود إلى جانب الاستئذان على البيوت، وإلى جانبها جولة ضخمة في مجال الوجود، ثم عاد السياق يتحدث عن حسن أدب المسلمين في التحاكم إلى الله ورسوله وسوء أدب المنافقين إلى جانب وعد الله الحق للؤمنين بالاستخلاف والأمن والتمكين، وها هو ذا يعود إلى آداب الاستئذان في داخل البيوت إلى جانب الاستئذان من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وينظم علاقة الزيارة والطعام بين الأقارب والأصدقاء إلى جانب الأدب الواجب في خطاب الرسول ودعائه [55].
التقديم والتأخير في المتشابه:
قد تأتي بعض الآيات متشابهة في كلماتها ولكننا نجد كلمة قدمت في آية وأخرت في أخرى لسر بلاغي أودعه الله في السياق، وسوف نقف – بإذن الله وتوفيقه – مع بعض هذه النماذج القرآنية التي وردت عبر السور المختلفة.. ومن ذلك قوله تعالى:(( واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون )) ( البقرة 123 )
فالآيتان من مشاهد القيامة وساحة القضاء الأعلى، وقد سُبقت الآيتان بآية تامة التشابه متحدة الكلمات وانتظامها، وهي قوله تعالى:(( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأنّي فضّلتكم على العالمين )) ( البقرة 47 ) (( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأنّي فضّلتكم على العالمين )) ( البقرة 122 )
وهذا التكرار للحثّ على التذكّر للنعمة والتحذير من الإعراض عن الله ورسوله، فاليهود أمّة جبلت على العناد والتّمرّد وذلك على الرغم من أنّهم أكثر الأمم رسلاً وأنبياء، وقدّم الشفاعة في السياق الأوّل ( آية 48 ) قطعاً لطمع من زعم أن آباءهم تشفع لهم، وأن الأصنام شفعاؤهم عند الله، وأخّرها في الآية الأخرى ( 123 ) لأن التقدير في الآيتين معاً لا يقبل منها شفاعة فتنفعها تلك الشفاعة، لأن النفع بعد القبول، وقدم العدل في الآية الأخرى ليكون لفظ القبول مقدّماً فيها[56].
ومما يشدّ من أزر ذلك المعنى الذي يبرز قطع الأمل في تلك الشفاعة، أنه جاء بـ ( يوماً ) على التنكير للتهويل ودفع النفس نحو الخوف والحذر، ونكر النفس مرتين للدلالة على العموم والشمول لكل نفس، وهو الإقناط الكلي القاطع للمطامع[57]، وقد جاء بالفعل ( يُقبل ) مع ( شفاعة ) لأنها محلّ القبول على سبيل الرحمة والرأفة، وجيء بالفعل ( يؤخذ) مع ( عدل ) لأن ذلك على سبيل الفداء[58] ومن ذلك قوله تعالى:(( وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغداً وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطّةٌ نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين )) ( البقرة 58 )
وقوله تعالى:(( وإذا قيل لهم اسكنوا هذه القرية وادخلوا منها حيث شئتم وقولوا حطةٌ وادخلوا الباب سجداً نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين )) ( الأعراف 161 )
ففي الآية الأولى:(( وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطةٌ )) وفي الآية الثانية ( وقولوا حطةٌ وادخلوا الباب سجداً ))
وقف الزمخشري على هذا الاختلاف على استحياء ولم يشأ الدخول في غماره وأعماقه، فاكتفى بقوله:لا بأس باختلاف العبارتين إذا لم يكن هناك تناقض، ولا تناقض بين قوله ( اسكنوا هذه القرية وكلوا منها ) وبين قوله ( فكلوا) لأنهم إذا سكنوا القرية فتسببت سكناهم للأكل منها، وسواء قدّموا الحطة على دخول الباب أو أخروها فهم جامعون في الإيجاد بينهم، وترك الرغد لا يناقض إثباته [59].
والحق أن السياق اختلف فأدّى إلى معان بلاغية دقيقة، فقد جاء صدر الآية في السياق الأول بالفعل المبني للمعلوم بإثبات ( نا ) لله تعالى على التعظيم فقالوا:( وإذ قلنا ) فناسب ذلك المقام ذكر ( رغداً ) على التنكير التفخيمي.. ولما كان الدخول في قوله:( ادخلوا هذه القرية ) غير السكن في قوله:( اسكنوا هذه القرية ) لأن السكن يعني اللبث والإقامة والاطمئنان، فقد جاء في السياق الأول الفاء في (فكلوا ) والثاني ( وكلوا )... وقدّم ( وادخلوا الباب سجداً) على قوله:( وقولوا حطة ) في سورة البقرة وأخّرها في الأعراف لأن السابق في هذه السورة ( ادخلوا ) فبيّن كيفية الدخول.. وفي هذه السورة ( أي سورة البقرة ) ( وسنزيد ) بواو، وفي الأعراف ( سنزيد ) بغير واو، لأن اتصالها في هذه السورة أشد لاتفاق اللفظين. واختلفا في الأعراف فكان اللائق به ( سنزيد ) فحذف الواو ليكون استئنافاً للكلام[60].
ومن التقديم في المتشابه قوله تعالى:(( ختم على الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم )) ( البقرة 7 )
وقوله تعالى:(( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضلّه الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تتذكرون )) ( الجاثية 23 )
في آية البقرة جاء الحديث قبلها عن المتقين ثم الكافرين الذين ختم الله على قلوبهم التي هي المضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، كما جاء في الحديث الشريف، فكان الكلام في هذه الآية على عمومه... أما في آية الجاثية فهي تتكلم عن خاصة بعينها تقع في فئة من الناس، يتّخذون العبادة بأهوائهم، ومن القراءات:( إلهه هواه ) فينتقلون في عبادتهم من حجر إلى حجر أو غيره حسبما يتراءى لهم... فناسب ذلك تقديم الختم على السمع لأنه سمع التعقّل والهداية وهو أداة ووسيلة لنقل الفهم، كما جاء في قوله تعالى:(( ولهم آذان لا يسمعون بها )) ( الأعراف 179 )
ومن ذلك قوله تعالى:(( وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين )) ( القصص 20)
وقوله تعالى:(( وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين )) ( يس 20 )
بداية نرى صدر الآية جاء بـ ( جاء ) دون ( أتى ) لأن ( جاء ) تحيط به معاني العلم واليقين وتحقق الوقوع والقصد[61].. وبالنظر إلى الآيتين نجد تقديم ( رجل ) في الأولى وتأخير في الثانية لاختلاف المقام فيهما ففي الآية الأولى تقدم ( رجل ) لتسليط الضوء عليه ولفت الذهن إليه وما يحمله من نبأ المؤامرة، بوصوله إلى موسى عليه السلام يتغير الموقف ويخرج موسى متخفياً مترقّباً.. أما في الآية الثانية فالمقام يقتضي تسليط الضوء ولفت الانتباه إلى المدينة بصفة أساسية لا إلى الرجل، فتظهر المدينة على غفلتها وعدم إتباعها المرسلين ثم إرادة الرجل هدايتهم... فتأخر الرجل هنا يبين أنه لم يكن محتاجاً للسرعة والعجلة ومسابقة الزمن بالقدر العظيم الذي كان يحتاجه المقام الأول... ومن هنا يتبين بعد ما ذهب إليه الكرماني في قوله:خصت في هذه السورة ( أي القصص ) بالتقديم لقوله قبله:فوجد فيها رجلين ثم قال ( وجاء رجل) فاكتفى بالنظر إلى التقديم على أساس ذكر الرجلين من قبل لا غير !
ومن ذلك قوله تعالى:(( وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرّتهم الحياة الدنيا وذكّر به أن تُبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله وليٌّ ولا شفيعٌ وإن تعدل كلّ عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أُبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون )) ( الأنعام 70 )
وقوله:(( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفّار نباته ثم يهيج فتراه مصفرّاً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلّا متاع الغرور )) ( الحديد 20 )
وقوله تعالى:(( وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون))(العنكبوت64) فآيتا الأنعام والحديد في معرض الحديث عن الدنيا وأحوالها، وفي تدرّج من الأدنى إلى الأعلى فاللعب أولى مراحل الطفولة، والتكاثر في الأموال والأولاد نهاية المطلب وقمة اعتلاء عروش الدنيا... أما آية الحديد فهي في معرض المقابلة بين الدنيا والآخرة، فالأولى لهو ولعب والثانية هي الحياة البالغة، وكان لأسلوب المقابلة هنا حسن التنسيق والإيقاع الجميل، وهي من جملة طرق العرض التي يلجأ إليها القرآن، وهي متكاملة متجانسة مع بقية الأساليب لأداء الأغراض والقيم التي يريدها المنهج القرآني، لكنها تعد من أبرز الطرق الواضحة في العرض، وفي الأداء البياني الذي يسعى إليه القرآن[62]، وقال الكرماني بدأ بذكر اللهو لأنه في زمان الشباب، وهو أكثر من زمان اللعب وهو زمان الصبا[63].
ومن ذلك قوله تعالى:(( قالوا أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين )) ( المؤمنون 82-83 )
وقوله تعالى:(( وقال الذين كفروا أئذا كنا تراباً وآباؤنا أئنا لمخرجون لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين )) ( النمل 67-68 )
بتأخير اسم الإشارة ( هذا ) في الأولى، وتقديمه في الثانية ولعل ذلك راجع إلى التفصيل المذكور في آية المؤمنين الموت والتراب والعظام، فأغنى التفصيل عن تقديم اسم الإشارة، وهو لم يقع في آية النمل، وبقي أن نشير إلى أن الآيتين قد صدّرتا بالقول:( قالوا ).... ( وقال ) إشارة إلى أنه زعم باطل ليس له رصيد من اليقين والحق، ثم يصوّر القرآن الكريم مدى اعتمال الانفعال في نفوسهم وإصرارهم على العناد وذلك عن طريق أسلوب القصر بالنفي والاستثناء وبالأداة ( إن ) إيثار على ( ما ) مثلاً.
ومن ذلك قوله تعالى:(( فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضّل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة مّا سمعنا بهذا في آبائنا الأولين )) ( المؤمنين 24 )
وقوله:(( وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذّبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون )) ( المؤمنون 33 )
فقدّم ( الذين كفروا ) على ( من قومه ) في الآية الأولى، وأخّر في الثانية، وذلك لاختلاف المقام وتباين السياق بينهما ففي الأولى صرّح بذكر الرسول فقال:(( ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قوم... )) ( المؤمنون 23 ) وكرّر ذكر القوم مرتين وأضاف ( قوم ) إلى ضمير نوح لأنه أرسل إليهم فلهم مزيد اختصاص به، ولأنه واحد منهم وهم بين أبناء له وأنسباء، فإضافتهم إلى ضميره تعريف لهم إذ لم يكن لهم اسم خاص من أسماء الأمم الواقعة من بعد[64].
بينما تقدّم ذكر ( قومه ) على ( الذين كفروا ) في الثانية لأنها سبقت بذكر الرسول المرسل منكراً فقال تعالى:(( فأرسلنا فيهم رسولاً منهم )) ( المؤمنون 32 ) وهم قوم هود، فاحتيج إلى تقديم قومه الذين لم يذكروا صراحة ولو مرة واحدة في الآية 32.
وربما كان تقديم ( وقال الملأ الذين كفروا ) لاختصاص القول بهم وشموله لهم وبيان أثر قولهم في قومه وفي الناس كافة، إذ لم يؤمن معه إلا قليل كما جاء صريحاً في القرآن (( وما آمن معه إلا قليل)) ( هود 40 ) وجاء تقديم ( وقال الملأ من قومه... ) لاختصاص القول بقومه – قوم عاد – وبيان أثرهم في الناس. والله تعالى أعلم
الخاتمة:
إن القرآن الكريم معين لا ينضب وجنة فيحاء لا ينقضي ثمرها، بل يظل ملء السمع والبصر، يملك الفؤاد ويستولى على العقل والوجدان... وإننا بعد هذا التطوّف الّذي منّ به الرحمن نذكر من النظرات ما يأتي:
أولاً: إن الإعجاز البلاغي لأسلوب التقديم والتأخير إعجاز فيّاض عظيم التدفّق لا يقع في حصر.. وسبيل التعرّض لفيوضاته وتلمّس أسراره لا يقف عند حد في كلمة أو جملة، بل يشهد السياق في مجمله بستاناً مورقاً يانع الثمار والأزهار، لا تكاد تمد يداً لقطف ثمرة إلا وتجذبك الأخرى والأخرى فلا تستطيع الفراغ حتى تأتي على البستان كلّه.
ثانياً: الألفاظ القرآنية لها دلالتها في سياق الجملة فلا يمكن أن يرادف لفظٌ لفظاً آخر فيتساوى معه في المعنى تمام المساواة، بل إن الكلمة ذاتها لتتكرر في أكثر من سياق لتدلّ على معنى آخر مغاير في كل سياق، فإذا نظرنا إلى دلالة الكلمة المختارة في ظل تقديمها أدّى ذلك إلى إبراز المعنى في قوّة وجلاء، وساعد على تصوير المشهد في تدفّق وحياة.
ثالثاً: كان لأسلوب التقديم سمة أسلوبية بالغة الأثر في معرفة خواص تراكيب الكلام وكشف خبايا النفس والنفوذ إلى أعماقها وتصوير شخصيات المشهد في صورة حضورية تبيّن ما عليها من فرح أو ترح أو اضطراب أو توتر أو إيمان أو نفاق أو نحو ذلك.
رابعاً: كان لأسلوب التقديم والتأخير سمة التغلغل والانتشار في كافّة سياقات القرآن – تقريباً – وكان له دور بارز في آيات الأحكام وأساليب الحوار لا يقلّ بحال عن دوره في الآيات المكّيّة وما حملته من مشاهد القصص أو الآخرة.
خامساً: استطاع أسلوب التقديم أن يخاطب العقل والوجدان في آن معاً، وكان له القدرة على حمل السامع أو القارئ على المشاركة في تفعيل الموقف القرآني وما يبثّه من معان وآداب رفيعة، فنشّط الخيال وحرّك الأذهان والعقول.
سادساً: لا يقف التقديم والتأخير عند حد جزيئات اللغة من كلمات وجمل يقدّم بعضها على بعض وإنما يمتدّ ليشمل الآيات والموضوعات الكبرى التي جاء في ترتيبها توقيفاً من عند الله تعالى بإجماع العلماء، وما كان لآية أن تسبق أختها أو موضوع هو سابق لأخيه إلا لنكتة بلاغية ودلالة معنوية يثبتها السياق في مضمونه وبين طياته.
قال تعالى : {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا}.
فعطف "المقيمين" على "المؤمنون" والقاعدة أنَّ العطف يوجب الاتحاد في الحكم ، فإمَّا أن تكون مرفوعة جميعًا وإما أن تكون منصوبة جميعًا، فما السرُّ في ذلك؟
كسر الإعراب أو "القطع" ، في لغة العرب يكون لنُكَتة بلاغيَّة، فهو أسلوب شائع في كلام العرب، وقد أشار إليه أئمة النحو في كتبهم، فعلى سبيل المثال يقول ابن عقيل ، رحمه الله ، في شرحه على الألفية :
"وإن لم يكونا مفردين ، بأن كانا مركبين ، (أي : الاسم واللقب) ، نحو : عبد الله أنف الناقة ، أو مركبا ومفردا نحو : عبد الله كرز ، (والكرز : هو القصير عظيم البطن والله أعلم) ، وجب الإتباع ، فتتبع الثاني ، "أي : اللقب" ، الأول ، "أي : الاسم" في إعرابه ، ويجوز القطع إلى الرفع أو النصب ، (وهذا شاهد كلامنا) ، نحو : مررت بزيد أنفُ الناقة ، برفع أنف ، على إضمار مبتدأ ، فيكون تقدير الكلام : مررت بزيد هو أنفُ الناقة ، والنصب على إضمار فعل ، والتقدير : مررت بزيد أعني أنفَ الناقة ، والقطع في لغة العرب لا يكون إلا إلى الرفع والنصب فلا قطع إلى الجر ، فيصح أن تقول : هذا زيد أنفَ الناقة ، بالقطع إلى النصب ، ولا يجوز القطع إلى الجر ، والله أعلم. ينظر شرح ابن عقيل ، تحقيق الشيخ محمد محيي الدين 1/104
والقطع في المثال السابق للذم ، ولذلك فإن الأنسب في القطع إلى النصب أن يكون العامل المقدر دالا على الذم نحو : مررت بزيد أذم ، أو : أخص بالذم أنفَ الناقة .
وحذف المبتدأ عند القطع إلى الرفع من مواضع حذف المبتدأ وجوبا ، وإليه أشار ابن عقيل ، رحمه الله ، بقوله: "الأول ، (أي : من مواضع حذف المبتدأ وجوبا) : النعت المقطوع إلى الرفع : في مدح ، نحو : "مررت بزيد الكريمُ" أو ذم ، نحو : "مررت بزيد الخبيثُ" أو ترحم ، نحو : "مررت بزيد المسكينُ" فالمبتدأ محذوف في هذه المثل ونحوها وجوبا ، والتقدير : (هو الكريم ، وهو الخبيث ، وهو المسكين)" . اهـ ينظر شرح ابن عقيل1/209
ويقول إمام النحاة ابن هشام ، رحمه الله ، في أوضح المسالك: "ثم إن كان اللقب وما قبله مضافين ، كــ : عبد الله زين العابدين ، أو كان الأول مفردا والثاني مضافا كـــ : كزيد زين العابدين ، أو كانا العكس ، كـــ : عبد الله كرز ، أتبعت الثاني للأول : إما بدلا ، أو عطف بيان ، أو قطعته عن التبعية ، (وهو : شاهدنا في هذا الموضع) ، إما برفعه خبرا لمبتدأ محذوف ، أو بنصبه مفعولا لفعل محذوف. بتصرف من "أوضح المسالك" ، ص53 .
ففي قولك : مررت بعبد الله زين العابدين ، إما أن تتبع "زين" ، لـــ : "عبد" المجرورة ، فتجرها كبدل أو عطف بيان ، بدليل جواز إتيان الثانية محل الأولى دون أن يختل المعنى فتقول : مررت بزين العابدين ، فــ "زين العابدين" هو "عبد الله" و "عبد الله" هو "زين العابدين" .
وأما القطع : فقد سبقت الإشارة إليه في كلام ابن عقيل ، رحمه الله ، فالرفع بتقدير مبتدأ محذوف تقديره : هو ، والنصب بتقدير فعل محذوف : أعني ، والله أعلم .
وعليه يحمل قولك : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، برفع ونصب "الرجيم" ، فتقدير الرفع : أعوذ بالله من الشيطان هو الرجيمُ ، وتقدير النصب : أعوذ بالله من الشيطان أذم الرجيمَ ، من الذم ، فالفعل المقدر يجب أن يكون مناسبا للسياق ، والسياق هنا سياق ذم ، والله أعلم .
ومنه أيضا :قوله تعالى : {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} ، بقطع : "أهلَ" إلى النصب مدحا لدلالة السياق على ذلك ، فيكون تقدير الكلام : أعني أهلَ البيت ، أو أخص بالمدح أهلَ البيت.
وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "نحن معاشرَ الأنبياء لا نورث ، ما تركنا صدقة"
فالنصب على الاختصاص ، فيؤول الكلام إلى : نحن أخص بالذكر : معاشرَ الأنبياء ...
وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إنا آلَ محمد لا تحل لنا الصدقة" فالنصب على الاختصاص أيضا ، فيؤول الكلام إلى : نحن أخص بالذكر : آلَ محمد .....................
ففي كل ما سبق بيان لجواز القطع في لغة العرب من جهة: الصناعة النحوية.
فيقال في الآية محل البحث:
وقع القطع في السياق مرتين : {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}
فالسياق ابتداء جارٍ على الرفع : "الراسخون" و "المؤمنون" ، ثم قطع إلى النصب على الاختصاص في : "والمقيمين" ، ثم قطع إلى الرفع مرة أخرى ليرجع السياق إلى ما كان عليه ، بتقدير مبتدأ محذوف لـــ : "المؤتون" ، فيكون تقدير الكلام : وأخص بالذكر المقيمين الصلاة ، ثم يقطع إلى الرفع بتقدير : وهم المؤتون الزكاة .
وأما من جهة الصناعة البلاغية: فإن الكسر أو القطع في الإعراب ، يلفت نظر السامع إلى معنى جديد في الكلام ، فهو بمثابة جرس إنذار يسترعي انتباه القارئ لنكتة في هذا الموضع من السياق ، إما أن تكون مدحا أو ذما أو تحذيرا أو ............... إلخ .
فمن أمثلة الذم:
قوله تعالى : {وامرأته حمالةَ الحطب} بنصب حمالةَ ، فتقدير الكلام : وامرأته أعني حمالةَ الحطب ، أو : وامرأته أذم حمالةَ الحطب ، والله أعلم .
ومن أمثلة التحذير:
قوله تعالى : {فقال لهم رسول الله ناقةَ الله وسقياها} ، بنصب "ناقةَ" ، فسياق الكلام ، للوهلة الأولى ، يرجح رفع : "ناقة" ، لأنها صدر جملة مقول القول ، ولكنها نصبت هنا على التحذير ، كما أشار إلى ذلك القرطبي ، رحمه الله ، فتقدير الكلام : احذروا ناقةَ الله ، أو : احذروا أن تمسوا ناقةَ الله بسوء ، والله أعلم .
ومن أمثلة المدح :
الآية التي بين أيدينا ، فتقدير الكلام : لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وأخص بالذكر أو أمدح المقيمين الصلاة .......... ، والله أعلم .
وحديث كعب بن عجرة ، رضي الله عنه ، عند الطبراني ، رحمه الله ، في "المعجم الكبير" ، وفيه : "نَحْنُ مَعَاشِرَ الأَنْصَارِ آمَنَّا بِهِ، وَاتَّبَعْنَاهُ، وَقَاتَلْنَا مَعَهُ" ، فالنصب على الاختصاص مدحا .
قال الزمخشري في الكشاف: "و{وَالمقيمين} نصب على المدح لبيان فضل الصلاة، وهو باب واسع ، وقد كسره سيبويه على أمثلة وشواهد ، ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحناً في خط المصحف، وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان ، وغبي عليه أنّ السابقين الأوّلين الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام وذبّ المطاعن عنه ، من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدّها من بعدهم وخرقاً يرفوه من يلحق بهم . وقيل : هو عطف على { بِمآ أُنزَلَ إِلَيْكَ } أي يؤمنون بالكتاب وبالمقيمين الصلاة وهم الأنبياء . وفي مصحف عبد الله : «والمقيمون»، بالواو . وهي قراءة مالك بن دينار ، والجحدري ، وعيسى الثقفي" . اهـ
القراءات الواردة في الآية
في الآية قراءتان الأولى بالنصب "والمقيمين"وفيها ستة أقوال، والثانية بالرفع "والمقيمون" وفيها سبعة أوجه:
الأول: أنه منصوبٌ على القطع، وهو مذهب البصريين ،لأدلة سماعية مأثورة عن العرب منها:
ويأوي إلى نسوة عطـــــل *** وشعثـًا مراضيعَ مثل السعالى
ووافقهم في ذلك الفراء والنحاس والزجاج والزمخشري وابن هشام وأبو حيان، وهذا القول هو المرجح عند كثير من المحدثين. واللطيفة في النصب على المدح لبيان عظم شأن الصلاة.
أما الكوفيون فقد تأولوا الآية ، وذهبوا إلى منع جواز نصب "والمقيمين" على المدح ، لأنهم لا يجيزون النصب على المدح قبل تمام الكلام ؛ والخبر في الآية عندهم أتى متأخرا عن الكلمة المقصودة.
الثاني: أن يكونَ معطوفاً على "ما" في "بما أُنْزِل"، وإليه ذهب الكسائي وتبعه السيرافي ، وأيده الطبري ، فيكون التقدير :"والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، وبالمقيمين الصلاة" وهم الأنبياء أو الملائكة أو المذهب والدين، على اختلاف بين المفسرين القائلين بهذا التأويل، أو الناقلين له . واختار هذا القول أيضا مكي بن أبي طالب ، وابن هشام .
الثالث: أن يكونَ معطوفاً على الكاف في "من قبلك"، والتقدير : (وما أنزل من قبلك ومن قبل المقيمين الصلاة) . وممن ذكره وأجازه القرطبي ، ومكي بن أبي طالب.
الرابع: أن يكونَ معطوفاً على الضمير في "منهم"، فيكون التقدير : (ولكن الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين الصلاة) ، وممن أجاز هذا الوجه مكي بن أبي طالب.
الخامس: أن يكون معطوفاً على الكاف في "إليك"، والتقدير: (والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك .......... وإلى المقيمين الصلاة) وهم الأنبياء، وممن أجازه العكبري ، والقرطبي.
السادس: تضمين "لكن" بالنسبة إليها لفظ "إلا"، فتعمل عملها في النصب . ويكون أن المعنى أن "المقيمين الصلاة" مستثنون ممن أعد الله لهم العذاب الأليم المذكورين في الآية السابقة ، وذكره البقاعي ، وأجازه على بُعد.
ويظهر أن المذهب الراجح هو النصب على المدح ، وقال به جمهور البصريين، ووافقهم جماعة من الكوفيين لما يلي :
1- السماع من العرب.
2- لا دليل على منع النصب على المدح قبل تمام الكلام.
3- احتمال أن يكون الخبر في الآية هو جملة "يؤمنون" وعليه فالكلام تام، ولا وجه للاعتراض.
وصلى الله علي سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
تنبيه: ليس لي في هذا البحث إلا التجميع والتهذيب من مقالات منشورة فأحببت أن أنظمها في بحث واحد حتى تكمل الفائدة
مرسلة بواسطة عمر خطاب عمر الرشيدي في 10:09 ص 0 التعليقات
22 ديسمبر, 2009
من أسرار النظم القرآني في قوله تعالى: { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا }
من أسرار النظم القرآني في قوله تعالى: { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا }
قال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} [الإنسان6 ) وقال أيضا: (يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} (المطففين : 28)
يقال: من معلوم أن العين لا يشرب بها بل يشرب منها، إلا أن القرآن الكريم عبر بلفط (بها) ولم يقل عينا يشرب مائها عباد الله أو غيرها، فما تفسير هذا؟
الإجابة
في قوله تعالى: { يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ} عدّى الفعل بـ (مِنْ) وفي المقرّبين عدّى الفعل بالباء { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} وفي هذا دلالة على أن جزاء المقربين أعلى من جزاء الأبرار، فكما يقال: (حسناتُ الأبرار سيئات المقرّبين)، ويدلنا على ذلك جملة أمور، وهي:
أولاً: بالنسبة للأبرار يُؤتى بكأس يشربون منها أما المقرّبون يشربون بها ، وهي تفيد الإلصاق بمعنى أقام بالعين وشرب بها ، فإذن صار التلذذ بالنظر وبالشراب.
ثانياً: الأبرار يشربون من كأس ممزوجة بالكافور وليست خالصة {يشربون من كأس كان مزاجها كافورا} وهي تُمزج بقدر أعمالهم في الدنيا أما المقرّبون فيشربون من العين صرفة خالصة ليست ممتزجة.
ثالثاً : عدّى الفعل بالباء تدل على تضمين معنى روي به (يشرب به) بمعنى يرتوي به على خلاف الشرب الذي لا يدل على الارتواء ، فالتعدية بالباء تدل على نزول في المكان والشرب الخالص والارتواء منها.
رابعاً : قال تعالى في عباد الله : {يفجرونها تفجيرا} بمعنى يُجرونها حيث شاءوا ، ويقال في الآية أنه معهم قضبان من ذهب في أيديهم يجرونها حيث شاءوا ، وهذا يدل على أنه ليس فيها عناء ولكنها تتم بسهولة، وهناك فرق بين جزاء الأبرار وجزاء المقرّبين.
ومن المعلوم بالضرورة أن العين الجارية يشربُ منها، لا بها، فهي مورد الشرب، لا أداته، ووسيلته، ومعلوم كذلك أن الشرب يُشَارُ به إلى العملية الآلية المعروفة من رفع الماء نحو فم الشارب وشربه على نحو من الأنحاء ، ولكن هذه العملية لا تعني حصول الأثر المرجوّ منها، وهو الإحساس بالارتواء في النفس، ولما كان الشارب من هذه العين في الجنة يحصل له أثرها المباشر في النفس من غير فاصل زمني، بين شربه وإحساسه بالريّ النفسي، ولَمَّا كان الفعل يشرب هنا قد ضُمِّنَ معنى الفعل يرتوي؛ عدّى القرآن الكريم الفعل "يشربُ" بما يتعدى به الفعل "يرتوي" ، إذ حصل الثاني وتحقق مع الأول على نحو تزامني، وبذلك يكون المعنى المقصود: عينا يشرب منها فيرتوي بها المقربون، وهذا وجه امتياز الشرب من هذه العين عما عداها من سائر العيون، فثمة هنالك شاربون كثيرون، بالمعنى الإجرائيِّ الآليِّ لهذه العملية، ولكنهم لا يرتَوُون، فليس كل شارب مرتويًّا. نسأل الله تبارك وتعالى أن يسقينا بهذه العين لذةً وريًّا أبدا.
قال الطاهر ابن عاشور في تفسيره:
الباء في قوله: {يشرب بها} إما سببية ، وعُدي فعل{يشرب} إلى ضمير العين بتضمين {يشرب} معنى : يمزج ، لقوله: {ومزاجه من تسنيم} أي يمزجون الرحيق بالتسنيم.
وإمَّا باء الملابسة وفعل {يشرب} معدّى إلى مفعول محذوف وهو الرحيق ، أي يشربون الرحيق ملابسين للعين ، أي محيطين بها وجالسين حولها.
أو الباء بمعنى ( مِن ) التبعيضية ، وقد عده الأصمعي والفارسي وابن قتيبة وابن مالك في معاني الباء ، وينسب إلى الكوفيين ، واستشهدوا له بهذه الآية ، وليس ذلك ببيّن ، فإنّ الاستعمال العربي يكثر فيه تعدية فعل الشرب بالباء دون ( مِن ) ، ولعلهم أرادوا به معنى الملابسة ، أو كانت الباء زائدة كقول أبي ذؤيب يصف السحاب
... شَرْبنَ بماء البحر ثم ترفَّعت
متَى لُجَج خُضر لَهُن نَئيجُ ...
مرسلة بواسطة عمر خطاب عمر الرشيدي في 02:01 م 0 التعليقات
15 ديسمبر, 2009
الحاجة إلي دراسة علوم البلاغة
الحاجة إلى دراسة علوم البلاغة
ترجع الحاجة إلى دراسة علوم البلاغة العربية إلى أمور ثلاثة:
الأول: أن الناظر في هذه الفنون والمدرك لها، والحائز لملكتها يقف عن يقين، لا يشوبه تردد على جهة إعجاز القرآن الكريم بالتفصيل وهي جهة دلالته اليقينة على صدق محمد صلي الله عليه وسلم فيكون بذلك مؤمنا عن عقيدة لا عن تقليد وعن برهان لا عن محاكاة، وفي ذلك شرف لاغاية وراءه.
الثاني: أن المتمكن من هذه العلوم: أصولها وفروعها يلمس بنفسه دقائق العربية وأسرارها ويدرك مراتب الكلام ومراميه، ومزايا صوره شعرا ونثرا فيهتدي إلى مواطن النقد الصحيح، ومعرفة الجيد من الكلام ورديئه ومن وفق إلى الإحسان من أرباب القول ومن لم يوفق وإلا فكيف يعرف الجاهل بفضول البلاغة وأصولها فضل كلام على كلام وشرف متكلم على آخر ، وكيف يستطيع مثل هذا أن يواز ن بين شاعر وشاعر، أو أن يفاضل بين خطيب وخطيب؟
الثالث: أن الدارس لهذه الفنون الخبير بضوابطها وقوانينها العارف لأصولها وفروعها إذا أراد أن يقول شعرا أونثرا في أي غرض من الأغراض استطاع أن يجد من أمره رشدا، فيصيب الهدف ويدرك القصد ويأتي بما يطابق الحال من الألفاظ والتراكيب ، ويهتدي إلى المستجاد من القول، والمختار من الكلام لأن معه النبراس الذي يستضيء به، ويسير على هداه.
ولو لم يكن لهذه العلوم من سابغ الفضل على ذويها سوي الوصول بهم إلى موضوع السر من إعجاز القرآن وكيف أنه تحدى العرب، وهم ذوولسن وفصاحة، في أبين صفاتهم وأجل سماتهم بما حواه من محكم الصياغة والبلاغة، وبما تضمنه من جوامع الكلم، وروائع الحكم، حتى وقف بنو العروبة ، وحاملوا لوائها أمامه واجمين وخر له أعلام البيان ساجدين لو لم يكن لها سوي هذا الفضل لكان لزاما على عامة أبناء العربية أني ير تضعوا أفاويقها، وينهلوا من مناهلها فما ظنك وقد تعدى خطرها هذا الأمر؟ إنها لتكشف لك عما في الفصحى من كنوز ونفائس لا تقف عند حد، كما تكشف لك عن سر ما لها من فضل التقدم على سائر اللغات، حتى نزل القرآن الكريم فوسعته معني وأسلوبا على ما فيه من روعة وجلال، فكان ذلك شهادة لها بتبوئها مكان الصدارة واستوائها على عرش السيادة.
وهل تراك بالغا أعماق القلوب، مالكا زمام العقول تقويما لعقيدة زائغة أو إحياء لحق مضيع، أو ردًا لشرف مثلوم بغير معونة هذه العلوم؟ أجل فرب كلام أقطع من حسام، وأنفذ من سهام.
وأي أثر ذلك الذي تحسه في نفسك عندما يجري على لسانك اللفظ الأنيق ذو المعني الدقيق ، أو تنعكس على يراعك أشعة الخيال الرائع، والتصوير البارع أتراك لو حيزت لك الدنيا بحذافيرها لقاء أن يعزي إلى غيرك ما أبدعت، أكنت قابلا هذا البدل على جليل خطره وعظيم قدره؟ لك لعمري متعة النفس لا يعدلها شيء في الوجود.
ومن أجل ذلك كله كانت حاجتنا إلى دراسة هذه العلوم، فوق حاجتنا إلى شأن آخر من شئون هذه الحياة، وحسبك منها أن تعرف بها ما للغة آبائك من قوة واعتزاز وما احتواه كتاب ربك، رمز العظمة وآية الإعجاز.
الفوائد التي تترتب على دراسة علوم البلاغة
دراسة علوم البلاغة، مع التزود بقدر واف من منثور العرب ومنظومهم والتأمل الواعي لهذه النصوص الأدبية المختارة، تمكن الدارس من تحقيق الأهداف التي توخاها المؤلفون من علوم البلاغة وخلاصتها:
1) معرفة إعجاز كتاب الله إذ لا يمكن الوقوف على ذلك إلا بدراسة الأساليب العربية ومعرفة الجيد منها والرديء، وأسباب الجودة، وأسباب الرداءة والمقارنة بين الجيد منها، والقرآن قد بهر العرب بحسنه وبراعته، وكمال معانيه، وصفاء ألفاظه، فكانت دراسة هذه العلوم، من هذه الجهة، معينة على معرفة أسرار الإعجاز.
2) القدرة على صوغ أدب جميل رائع فإن المتأدب إذا أراد أن يصنع قصيدة أو ينشئ رسالة أو يكتب رسالة، أو يكتب مقالة أو قصة وقد فاتته هذه العلوم، مزج الصفو بالكدر، ولم يهتد إلى الصورة البديعة، والأساليب الجيدة.
3) القدرة على حسن الاختيار فإذا أراد صاحب العربية أن يختار كلاما منثورًا أو شعرًا منظوما، وتخطى هذه العلوم ساء اختياره فأخذ الردئ المرذول وترك الجيد المقبول.
4) والبيان في ذاته فضيلة ، تسمو على كثير من الفضائل ولذلك نجد النبي صلي الله عليه وسلم مع ما أعطاه الله من العلوم الدينية وخصه بالحكم والآداب الدنيوية، لم يفتخر بشيء من ذلك، فلم يقل أنا أفقه الناس ولا أنا أعلم الخلق بالطب، بل افتخر بما أعطاه الله من الفصاحة فقال:"أنا أفصح من نطق بالضاد".
وحسب العالم- والعالم بالعربية خاصة- من العيب أن يُدعى في الحفل الجامع أو الخطب النازل فلا يستطيع أن يقول:
كفي بالمرء عيبًا أن تراه *** له وجه وليس له لسان
مرسلة بواسطة عمر خطاب عمر الرشيدي في 02:11 م 0 التعليقات
29 يوليو, 2009
تأملات بلاغية في سورة الكوثر
تأملات بلاغية في سورة الكوثر
ما الكوثر؟
{ الكوثر } : اسم في اللغة للخير الكثير صيغ على زِنة فوْعل من الكثرة ، وهو المفرط الكثرة ، وهي من صيغ الأسماء الجامدة غالباً نحو الكوكب ، والجورب ، والحوشب والدوسر ، ولا تدل في الجوامد على غير مسماها ، ولما وقع هنا فيها مادة الكَثْر كانت صيغته مفيدة شدة ما اشتقت منه بناء على أن زيادة المبنى تؤذن بزيادة المعنى ، ولذلك فسره الزمخشري بالمفرط في الكثرة ، وهو أحسن ما فُسر به وأضبطُه ، ونظيره : جَوْهر ، بمعنى الشجاع كأنه يجاهر عدوّه ، والصومعة لاشتقاقها من وصف أصمع وهو دقيق الأعضاء لأن الصومعة دقيقة لأن طولها أفرط من غلظها .
وذكر في معنى الكوثر آراء كثيرة ، فروي عن ابن عباس ، قال سعيد بن جبير فقلت لابن عباس : إن ناساً يقولون هو نهر في الجنة ، فقال : هو من الخير الكثير . وعن عكرمة : الكوثر هنا : النبوءة والكتاب ، وعن الحسن : هو القرآن ، وعن المغيرة : أنه الإِسلام ، وعن أبي بكر بن عَيَّاش : هو كثرة الأمة ، وحكى الماوردي : أنه رفعة الذكر ، وأنه نور القلب ، وأنه الشفاعة ، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم المروي في حديث أنس لا يقتضي حصر معاني اللفظ فيما ذكره .
والصحيح في معنى الكوثر هو ما فسره به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : « هو نهر في الجنة ، حافتاه من ذهب ، ومجراه على الدر والياقوت ، تربته أطيب من المسك ، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج » قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . وفي صحيح مسلم ، واقتطعنا منه ، قال : « أتدرون ما الكوثر؟ قلنا : الله ورسوله أعلم . قال : نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد النجوم » انتهى . قال ذلك عليه الصلاة والسلام عندما نزلت هذه السورة وقرأها .
التحليل البلاغي للسورة
• جَمَع ضميرَ المُتَكَلِّم فقال (إِنَّا) ، وهو يُشْعِرُ بعظم الربُوبِيَّة ، فالعطاءُ يتناسَبُ مع مقام الربوبية المُشَار إليه بضمير التعظيم.
• صدَّر الجملة بحرف التوكيد مجرى القسم للاهتمام بالخبر، والكلام مسوق مساق البشارة وإنشاء العطاء لا مساق الإخبار بعطاء سابق، وأريد من هذا الخبر بشارة النبي صلى الله عليه وسلم وإزالةُ ما عسى أن يكون في خاطره من قول من قال فيه : هو أبتر ، فقوبل معنى الأبتر بمعنى الكوثر ، إبطالاً لقولهم .
• بَنَى الفِعْلَ على المبتدأ فدلَّ على خُصُوصِيَّة وتَحْقِيقٍ.
• أوردَ الفعل الماضي (أعطى) دلالة على أنَّ الكوثر لم يتناول عطاء العاجلة دون عطاء الآجلة، ودلالة على أن التوقع من سيب (عطاء ) الكريم في حكم الواقع.
• جاء بالكوثر محذوف الموصوف، لأن المثبت ليس فيه ما في المحذوف من فرط الإيهام والشياع، والتناول على طريق الاتساع، لذا وردت الأقوال الكثيرة عن العلماء في تفسير الكوثر، فمن قائل نهر ومن قائل الأتباع ومن قائل الذكر.. والكوثر يشمل كل ذلك ويزيد، فهو الخير الكثير الموهوب من الرب العظيم.
• اختيار الصفة المؤذنة بالكثرة (على وزن فوعل).
• أتى بهذه الصفة (الكوثر) مصدّرة باللام المعروفة بالاستغراق ؛ لتكون ما يوصف بها شاملة، وفي إعطاء معنى الكثرة كاملة.
• وفاء التعقيب في الآية الثانية مستفادة من معنى التسبب لمعنيين:
ـ جعل الإنعام الكثير سبباً للقيام بشكر المنعم وعبادته.
ـ جعله لترك المبالاة بقولة العدو.
فإن سبب نزول هذه السورة: ما روي أن العاص بن وائل قال إن محمد صنبورـ والصنبور الذي لا عقب له ـ فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلت هذه السورة.
• قصده بالأمر التعريض بذكر العاص وأشباهه ممن كانت عبادته ونَحْره لغير الله.
• أشار بهاتين العبادتين إلى نوعي العبادات : الأعمال البدنية والصلاة قوامها، والمالية ونحر البدن ذروة سنامها، للتنبيه على ما للرسول صلى الله عليه وسلم من الاختصاص في الصلاة التي جعلت فيها قرة عينه، ونحر الإبل التي كان لا يجارى فيه، فقد روي أنه أهدى مائة بدنة فيها جمل في أنفه برة من ذهب.
• حذف اللام الأخرى لدلالة الأولى عليها. فلم يقل (وانحر له) أو (لربك).
• مراعاة حقِّ السَّجْع الذي هو من جملة صفة البديع إذا ساقه قائله مساقًا مطبوعًا بعيدًا عن التكلّف.
• قوله (لربك) فيه لطيفتان: وروده على طريق الألتفات التي هي (أم) في علم البلاغة. وصرف الكلام عن لفظ المضمر إلى لفظ المظهر وفيه إظهار لكبرياء شأنه وإثباته لعز سلطانه.
• علم بهذا أن من حقوق الله التي تعبّد العباد بها أنه ربهم ومالكهم وعرّض بترك التماس العطاء من عبد مربوب ترك عبادة ربه.
• وفي الآية الثالثة علل الأمر بالإقبال على شأنه وترك الاحتفال بشانئيه على سبيل الاستئناف الذي هو حسنُ الموقع، وقد كثرت في التنزيل مواقعه.
• ويتجه أن نجعلها جملة الاعتراض مرسلة إرسال الحكمة الخاتمة والاعتراض كقوله تعالى: (إن خير من استئجرت القوي الأمين) [القصص: 26]. وعني بالشانئ العاص بن وائل.
• إنما لم يسمه باسمه ليتناول كل من كان في مثل حاله.
• صدّر الجملة بحرف التوكيد الجاري مجرى القسم وعبّر عنه بالاسم الذي فيه دلالة على أنه لم يتوجه بقلبه إلى الصدق، ولم يقصد بلسانه الإفصاح عن الحق بل نطق بالشنآن الذي هو قرين البغي والحسد، وعين البغضاء، ولذلك وسمه بما يُنْبِئُ عن الحقد.
• جعل الخبر معرفة وهو (الأبتر) والشانئ كذلك، ليعلم أنه المعروف لدى الناس يقال له (الصنبور).
• اشتملت سورة الكوثر على نوعي الجملة الخبري والإنشائي ، فالخبري هو : قوله: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ. وقوله: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ. والإنشائي هما، قوله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ. وقوله: وَانْحَرْ، وهما جملتان إنشائيتان طلبيتان.
• اشتملت سورة الكوثر على الوصل والفصل، فجملة "انحر" معطوفة بالواو على جارتها " فَصَلِّ لِرَبِّكَ." وهذا الوصل. وهي منقطعة عن الجملة اللاحقة إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ. وهذا الفصل.
• الضمائر في سورة الكوثر:
استوعبت سورة الكوثر كل أنواع الضمير في اللغة العربية دون أن تغفل الأحوال الإعرابية المختلفة وهذا من العجب العجاب لأننا نضع نصب أعيننا دائما أن عدد مفرداتها لا تتجاوز عدد أصابع الإنسان، وتفصيله:
1- الضمائر بارزة ومستترة:
فمن بارز الضمائر في السورة ما ظهر في فعل "أعطيناك".
ومن مستترة ما كمن في فعل "صل "أو" انحر".
2-الضمائر متصلة ومنفصلة:
ولك في جملة "أعطيناك" مثال على المتصل من الضمائر.
ولك في جملة هو الأبتر مثال آخر على الضمير المنفصل.
3-الضمائر في إحالتها على عناصر الخطاب تنقسم إلى ضمائر المتكلم والمخاطب والغائب.
ولا تحتاج إلى غير سورة الكوثر للتمثيل:
-فضمير المتكلم حاضر في" أعطينا".
-وضمير المخاطب في" أعطيناك" و"ربك" و"شانئك" صريحا، و في"صل" و"انحر"مقدرا.
-وضمير الغائب في "هو" صريحا وفي شانئ مقدرا، فتأمل هذه التناسبات اللطيفة.
4-باعتبار مقولة العدد:
جاء في السورة ضمير المفرد وضمير الجماعة. وقد اجتمعا في كلمة "أعطيناك".
5-الضمائر باعتبار محلها من الإعراب:
جاءت الضمائر في السورة متنوعة بحسب المحل الإعرابي:
- ضمير في محل رفع: (أعطيناك) الضمير الأول فيها فاعل مرفوع.
- ضمير في محل نصب: (أعطيناك) الضمير الثاني فيها مفعول به منصوب.
- ضمير في محل جر: (ربك) الكاف فيها مضاف إليه مجرور.
ومن لطائف السورة في هذا السياق أن الكلمات الدالة على الرب عز وجل ثلاث هي:
- اسم إن.
- فاعل أعطى.
- الرب.
وجاءت على التوالي:
- منصوب
- مرفوع
- مجرور.
وعلى نفس الترتيب الإعرابي جاءت الكلمات التي تدل على الرسول صلى الله عليه وسلم.
- "كاف" أعطيناك منصوبة
- "صل"الضمير المستتر مرفوع.
- "كاف" ربك مجرور.
• الأفعال في السورة:
لم يأت في السورة من الأفعال إلا ثلاثة: "أعطى"-"صلى"-"نحر".
لكنها على قِلَّتها مثلت من المقولات الصرفية والتركيبية عددا كبيرا:
1- الفعل الصحيح: نحر.
2- الفعل المعتل: أعطى.
3- الفعل المضعف: صلى.
4- الفعل المجرد: نحر.
5- الفعل المزيد: أعطى.
6- الفعل اللازم: صلى.
7- الفعل المتعدي إلى مفعول واحد: نحر. 8- الفعل المتعدي إلى أكثر من مفعول: أعطى.
تأملات أخرى مفيدة في السورة
قال الرازي في تفسيره (مفاتيح الغيب) ويسمى : التفسير الكبير:
اعلم أن سورة الكوثر على اختصارها فيها لطائف ، ومنها:
أن هذه السورة كالمقابلة للسورة المتقدمة ، وذلك لأن في السورة المتقدمة وصف الله تعالى المُنَافِقَ بأمور أربعة :
أولها : البخل وهو المراد من قوله : { يَدُعُّ اليتيم وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين } [ الماعون : 2 ، 3 ] الثاني : ترك الصلاة وهو المراد من قوله : { الذين هُمْ عَن صلاتهم سَاهُونَ } [ الماعون : 5 ] والثالث : المراءاة في الصلاة هو المراد من قوله : { الذين هُمْ يُرَاءونَ } [ الماعون : 6 ] والرابع : المنع من الزكاة وهو المراد من قوله : { وَيَمْنَعُونَ الماعون } [ الماعون : 7 ] فذكر في هذه السورة (أي : الكوثر) في مقابلة تلك الصفات الأربع صفات أربعة ، فذكر في مقابلة البخل قوله : { إِنَّا أعطيناك الكوثر } أي إنا أعطيناك الكثير ، فأعط أنت الكثير ولا تبخل ، وذكر في مقابلة : { الذين هُمْ عَن صلاتهم سَاهُونَ } قوله : { فَصَلِّ } أي دم على الصلاة ، وذكر في مقابلة : { الذين هُمْ يُرَاءونَ } قوله : { لِرَبّكِ } أي ائت بالصلاة لرضا ربك ، لا لمراءاة الناس ، وذكر في مقابلة : { وَيَمْنَعُونَ الماعون } قوله : { وانحر } وأراد به التصدق بلحم الأضاحي ، فاعتبر هذه المناسبة العجيبة ، ثم ختم السورة بقوله : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر } أي المنافق الذي يأتي بتلك الأفعال القبيحة المذكورة في تلك السورة سيموت ولا يبقى من دناه أثر ولا خبر ، وأما أنت فيبقى لك في الدنيا الذكر الجميل ، وفي الآخرة الثواب الجزيل .
مرسلة بواسطة عمر خطاب عمر الرشيدي في 12:44 م 3 التعليقات
28 يوليو, 2009
نشأة علوم البلاغة
العلوم كالكائنات الحية ، تبدأ صغيرة ثم تنمو، وتبلغ أشدها ولا نعرف علما، من علوم العربية شذ عن هذه السنة إلا علم العروض فإن الخليل بن أحمد الفراهيدي أظهره تَامًّا، ولا نعرف له سلفًا قبله.وعلوم البلاغة لم توجد كاملة كما نراها الآن وإنما مرت بالأطوار التي مر بها كل علم وسنوجز هنا المراحل التي مرت بها.
أولا: مراحل النقد:
في كل مجتمع يوجد فيه شاعر أو كاتب أو خطيب يوجد من يستحسن الكلام، ومن يستهجنه، وقد يعبر هذا عن سبب استحسانه وهذا عن سبب استهجانه، وهذا ما يسمي بالنقد، وقد وجد هذا النقد مبكرا في الجاهلية الأولي ووصلتنا روايات فيها نقد لطائفة من الشعراء، وقد كان العرب في الجاهلية يفدون إلى سوق عكاظ يتناشدون الأشعار ويتحاكمون فيها إلى رجل من شعرائهم يثقون في ذوقه وفي حكمه، وكان النابغة الذبياني الشاعر المشهور، أحد حكام العرب في عكاظ.
ولم يكن المسلمون أقل إداركا لجيد الكلام من الجاهليين ... رووا أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يُقَدِّمُ زهير بن أبي سلمي، وكان يُعَلِّلُ رأيه بأن زُهَيْرًا كان لا يُعَاظِلُ في المنطق، ولا يتتبع الغريب الحوشي ولا يمدح الرجل إلا بما هو فيه، فنري