ظاهرة العقاب البدني
ذ. عزيز بوستّـا (شعبة علوم التربية)
رغم أن موضوع العقاب في التربية طُرح للنقاش من طرف مختلف الفاعلين في الحقل التربوي، على المستويين الوطني والعالمي منذ عقود، كما اهتم به المفكرون في الحضارات السابقة؛ الإسلامية واليونانية وغيرها، فيما نسميه بالأدبيات التربوية، إلا أنه رغم ذلك، مازال يحتفظ بأهميته وراهنيته للأسباب التالية:
1 ـ مازال العقاب البدني واللفظي سائدا في مؤسساتنا التربوية باختلاف مستوياتها الأولية والأساسية وغيرها.
2 ـ ظاهرة العنف (المرتبطة بالعقاب) لا يخلو منها أي بلد في العالم، وقد بلغت درجات قصوى في بعض البلدان الغربية تمثلت في إطلاق النار على التلاميذ والمدرسين...
3 ـ كنا قبل العقد الأخير نستنكر ظاهرة انتشار صور العنف في الأفلام والرسوم المتحركة التي يشاهدها الأطفال، فأصبحنا اليوم نُقذف بآلاف صور العنف والتقتيل الحية والواقعية والمبثوثة مباشرة أحيانا عن أطفال ونساء وشيوخ يُقتلون ويُقطعون أشلاء، فيما يمكن أن نسميه عقابا جماعيا للشعبين العراقي والفلسطيني...
موضوع العنف والعقاب إذن، جدير بأن يحتل صدارة نقاشاتنا، وما دمنا نعمل بالمجال التربوي، سنقتصر على تحليل البعد التربوي لهذه الظاهرة.
I ـ مظاهر العقاب في المؤسسات التربوية وأسباب وجودها:
لا بد من الإشارة – في البداية- إلى النقص الكبير في البحوث التربوية الميدانية التي أُنجزت حول هذا الموضوع، بحيث لا نملك رصداً دقيقا للحجم الحقيقي لهذه الظاهرة في مؤسساتنا التربوية، ليس هناك سوى بحوث متواضعة تشمل التعليم الابتدائي فقط، أما التعليم الأولي فلا زال في حاجة إلى دراسات علمية ميدانية. كما يجدر التنبيه إلى الصعوبات الكبيرة التي تعترض كل من يريد دراسة هذا الموضوع دراسة علمية موضوعية، فلا الاستمارات ولا الاستبيانات ولا الاستجوابات كافية لجمع معطيات جاهزة عنه، لأنه يتعلق بموضوع "محرم"، يصعب الإدلاء بالرأي الصريح حوله، كما يصعب على الباحث أن يستطلع رأي الطفل أو موقفه منه، أو أن يعرف حقيقة ما يتعرض له الطفل من عقوبات، لأن الباحث يظل بالنسبة للطفل شخصاً غريبا وممثلا في نفس الوقت لسلطة الراشد... وحتى استجواب الآباء واستطلاع آرائهم حول هذا الموضوع يخضع لمؤثرات ذاتية قد تُضخِّم منه نظرا للروابط العاطفية بين الآباء وأبنائهم، أو عكس ذلك قد تستهونه إذا كان الأب سلطويا في تعامله مع أبنائه ...
رغم النقص الملحوظ في دراسة هذا الموضوع ميدانيا، يمكننا القول من خلال ملاحظاتنا التلقائية وخبراتنا الشخصية، ومن خلال خلاصات بعض الدراسات التي أجريت في التعليم الابتدائي (1)، أن ظاهرة العقاب العنيف مازالت منتشرة في مؤسساتنا التربوية، وتأخذ عدة مظاهر منها:
1 ـ العقاب البدني بأدوات معينة كالعصي والحبال والمساطر وغيرها، أو باللطم والصفع والقرص...
2 ـ العقاب العنيف دون استخدام أدوات: كإيقاف الطفل خلف الباب، أو في مواجهة الحائط الخلفي للقسم مع رفع إحدى رجليه أو دون رفعها لمدد متفاوتة.
3 ـ العقاب اللفظي المتمثل في السّب والشتم والاستهزاء والسخرية...
4 ـ العقاب بالإهمال وعدم إعارة أي اهتمام لما يقوم به الطفل من أعمال ونشاطات تربوية وتعلمية...
5 ـ العقاب بالتنقيط (نقطة الصفر، النقطة الموجبة للرسوب)
6 ـ العقاب بالواجبات والفروض، كإرغام الطفل على كتابة كلمة أو جملة أو فقرة عشرات أو مئات المرات .
7 ـ <<العنف النفسي وفرض الرأي بصفة تسلطية وكبت حرية التعبير>>(2).
ـــــــــــــــــــــــــ
*هذا المقال هو عبارة عن عرض قدم في ندوة (العقاب اللفظي والبدني بالمؤسسات التعليمية)التي نُظمت بمركز تكوين المعلمين والمعلمات بطنجة، في إطار الملتقى السادس للتواصل بين التعليم الأولي والسلك الأول من التعليم الأساسي من 24 إلى 26 أبريل 2003.
أسباب وجود ظاهرة العقاب العنيف في مؤسساتنا التربوية:
لظاهرة العقاب العنيف عدة أسباب تشمل جوانب متعددة من حياة الفرد والمجتمع، يعود بعضها إلى عوامل تاريخية، وبعضها الآخر إلى أسباب نفسية واجتماعية وثقافية، كما يؤول بعضها أيضا إلى طبيعة النظام التعليمي ببلادنا. وهي كلها أسباب – على اختلاف درجات تأثيرها- تعمل إذا اجتمعت على تفاقم ظاهرة العقاب العنيف، وكلما ضعف تأثير بعض عناصرها، كلما لوحظ تقلص عنف العقاب وتدني حدته. نذكر من هذه الأسباب:
أ ـ الموروث التربوي: ونقصد به وجود جذور لظاهرة العقاب في تاريخ مجتمعنا البعيد والقريب، توارثتها أجيال بعد أجيال (3). فكثير من مفكرينا وفقهائنا المسلمين تعرضوا في مؤلفاتهم لهذه الظاهرة مثبتين وجودها، بل وتفشيها في مجتمعاتنا. نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر العلامة المختار السوسي (وُلد سنة 1898م وتوفي سنة 1963م.) من خلال مؤلفيه: <<المعسول>> الذي يقع في عشرين جزءا و <<مدارس سوس العتيقة>>، وهي مؤلفات جمع فيها كاتبها معلومات عن أزمنة ممتدة من القرن الخامس الهجري إلى القرن الرابع عشر الهجري.(4)
يقول المختار السوسي نقلا عن أحد المدرسين: << إن والديهم (آباء التلاميذ) إذا لم يجدوا فيهم (أبنائهم) أثرا للضرب ولوث الدم وتلطيخ بكثرة الجروح فإنهم يرجعون إليّ باللائمة والعتاب ... فكثيرا ما يأتي أحدهم فيقف بعيداً أو ينادي من وراء الحجرات، اضرب ولدي فإنه ساكت لاعب لاهٍ>>(5) وعن ذلك يعقب المختار السوسي <<هذا التأديب العنيف الذي يرتكبه الطلْبة (المدرسون) ويرتضيه الآباء ويغُضُّ عنه الرأي العام هو الذي يحمل بعض التلاميذ على الانتحار ...على الهروب وقلما نجد من لم يهرب من بلد إلى بلد من كل من تعلم القرآن>>(6).
وعن العلاقة بين المعلم والمتعلم، يقول المختار السوسي: << إذا جلس التلميذ إلى الطالْب (المدرس) ليعرض لوحته ثم تململ فيها، فلا يجيبه إلا بلطمة أو ركلة أو بقرصة ... والمقرص الرسمي يكون دائما تحت الذقون. ولذلك قلما نجد تلميذا إلا له أثر في عنقه ... والوالدان يقولان في ذلك متى رأوه رضي الله على الطالْب فما أكثر اجتهاده ... وقلما نجد من يمتعض لولده إن رأى منه مثل ذلك ...>>(7) ويصف المختار السوسي نفسية هؤلاء المدرسين بقوله: << بل أكثرهم، المدرسون متخلقون بهذه الشراسة والقساوة، بحيث إن لم ينهمكوا في تعذيب المتعلم، يحصل لهم التغيير الظاهر, والقبض والصداع، طبيعة وتطبع>>(8)
وتجدر الملاحظة إلى أن أغلب الفقهاء الذين أوردوا هذه الشهادات عن وجود ظاهرة العقاب البدني في المجتمع يتفقون على ضرورة تجنب العقاب العنيف في التربية، لكنهم لا ينفون أهميته حين يكون معتدلا، بل منهم من يحدد عدد الضربات المسموح بها لكل مرحلة من مراحل الطفولة(9).
ب ـ تأثير التنشئة الاجتماعية في تكوين المربي والمدرس:
تتميز أغلب الأوساط الأسرية في مجتمعنا بالخصائص الآتية:
1 ـ تمركز السلطة في يد الأب، وعدم إتاحته لباقي أفراد الأسرة فرصة مناقشة أي قرار يتعلق بالأسرة، وخاصة منهم الأطفال الصغار.
2 ـ استعمال العقاب البدني في التربية الأسرية.
فمثل هذه التنشئة الاجتماعية، لا بد وأن تترك بصماتها في سلوك المدرس - الذي ترعرع فيها- أثناء قيامه بمهامه التعليمية التربوية.
ج ـ تأتير المدرسين السابقين على المدرسين الجدد، فهؤلاء يستمدون الكثير من التقنيات التعليمية من مدرسيهم القدامى عن وعي أو بدونه.
هكذا يتعامل المربي أو المدرس داخل القسم مع الطفل الحاضر أمامه، مستحضرا دون وعي، تجربة الطفل القابع في لاوعيه، مما يجعله في غالب الأحيان يُعيد إنتاج نفس نمط التربية الذي تلقاه. لكن – لحسن الحظ- ما يجعل هذه النماذج لا تتكرر بنفس الحدة، هو خضوع المجتمع لحركية (ولو بطيئة) تتدخل فيها عناصر جديدة تجعلها تتطور نحو الأفضل، نحو علاقات تربوية أقل سلطوية، من هذه العناصر: الاحتكاك الذي وقع لمجتمعنا مع حضارات مختلفة، وبداية اتساع الحريات الفردية والعامة في المجتمع.
د ـ التنافر الحاصل بين المؤسسة التربوية ووسائل الاتصال الحديثة: فحضارة الصورة التي نعيشها اليوم، وثورة المعلوميات، تجعل الطفل منجذبا لمنتجاتها، مستسلما لمغرياتها، نظرا لما تقدمه له من تنشيط وحركية وصور جذابة وفرجة وتسلية، مما يجعل الطفل ينغمس بكل جوارحه في تعامله معها (من هذه الوسائل: الألعاب الإلكترونية وبعض برامج الحاسوب والأنترنيت، وبرامج القنوات الفضائية المختلفة). وفي مقابل هذا العالم المليء بالحركة والتنشيط والمتعة، يجد الطفل نفسه داخل المؤسسة التربوية أمام وسائل تعليمية بدائية غالبا ما تنحصر في السبورة والطباشير، وطرق تدريس عقيمة تعتمد على التلقين والحفظ والاستظهار... مما يجعل الطفل ينفر من هذه المؤسسات، ولا يُقبل عليها إلاّ مُكرها، مما يفتح المجال واسعا لممارسة مختلف أشكال العنف والعقاب لإرغام الطفل على "التكيف" مع هذا "العالم التربوي" الذي لا يلبي حاجياته ورغباته ...
ج ـ إكراهات تتحمل مسؤوليتها المنظومة التربوية ببلادنا، أذكر منها:
1 ـ اكتظاظ الأقسام بالأطفال يساهم في خلق علاقات تربوية غير سليمة بين المربين أو المدرسين والأطفال، كما يعد أرضية خصبة لتفشي كل أشكال العنف بما فيها العقاب البدني واللفظي.
2 ـ ضعف إمكانيات المؤسسة التربوية، وندرة الوسائل التعليمية المناسبة، يساهم في تكريس طرق تقليدية في التربية، مما يضطر المربين إلى اللجوء إلى بعض أشكال العقاب "لإرغام" الأطفال على مسايرة دروسهم ... فالاستغناء عن العقاب البدني يتطلب من المدرس - بالإضافة إلى خبرته البيداغوجية- توفره على وسائل تعليمية حديثة.
3 ـ إكراهات تتعلق بالبرامج التعليمية واستعمالات الزمن: فكثافة البرامج الدراسية وتنوعها، يجعل الكثير من المدرسين – تحت ضغط التوجيهات الرسمية- لا يفكرون إلا في تنفيذها في الآجال المحددة لها بغض النظر عن مدى تحقق أهدافها الموجهة لتربية الطفل وتنمية قدراته المختلفة. كما أن بعض استعمالات الزمن في التعليم الابتدائي وُضعت لتغطية الخصاص الحاصل في الحجرات الدراسية، فأصبحت الحجرة الواحدة تتسع لقسمين أو ثلاثة أقسام بالتناوب (الصيغتين الثانية والثالثة)، بحيث يدرس فيها التلاميذ ومدرسوهم طوال اليوم الدراسي، بدون انقطاع. مما يجعل تغذيتهم غير منتظمة، لأن الفترة الزوالية مستغرقة بالدراسة، فالطفل إما أن يخرج من المدرسة في الساعة الواحدة وإما أن يلجها في نفس التوقيت. وهذا بحد ذاته يمثل عقوبة قاسية للأطفال ولمدرسيهم في نفس الآن.
4 ـ إكراهات المراقبة التربوية والإدارية التي كثيرا ما تلحّ على الإنجاز الحرفي لكل أهداف الدرس المسطرة في الجذاذات.
5 ـ مراعاة كثير من مؤسسات التعليم الأولي لرغبات ومتطلبات أولياء أمور التلاميذ، بناء على حسابات الربح والخسارة المادية، يكون أحيانا على حساب جوانب بيداغوجية تربوية. فالكثير من أولياء أمور التلاميذ يقيسون مدى نجاح تربية أبنائهم بمدى حفظهم لكم هائل من المحفوظات بالعربية وبلغات أجنبية، وهو مقياس خاطئ بالنظر إلى ما تتطلبه مرحلة نمو الطفل في التعليم الأولي من الاعتماد بالدرجة الأولى على أنشطة حسية حركية يقوم المربون من خلالها بحفز الأطفال على البناء التدريجي لمختلف المفاهيم الأولية التي تهيئهم لاستيعاب البرامج التعليمية في مرحلة التعليم الابتدائي كما تلبي حاجياتهم المتعلقة بمستوى نضجهم.