كتاب وعي السلوك
(الكونفورميا و انظمة الوعي)
الدكتور محمد الدروبي
ثمة مسائل وظواهر إنسانية عدة استقطبت قسطاً كبيراً من اهتمامات وجهود المدارس والاتجاهات الفكرية بغية إضاءتها على نحو مقبول ومفيد. فالوجود، والحق، والحرية، والأخلاق، والمواقف، والسلوك، والجمال، والفكرة، والمادة، وغيرها من المقولات والظواهر، كانت ولا تزال مسائل مطروحة بقوة للتفسيرات الفلسفية منها والسياسية والعلمية والاجتماعية والنفسية، إلى جانب عدد آخر من فروع العلوم الإنسانية الأخرى. إن مرجعية وخلفيات الاهتمام الكبير بها يكمن - من حيث المبدأ- في حقيقة أن مضامين هذه الظواهر وهذه المقولات تمثل عناصر بنيوية في العلاقات اليومية، العلاقات الارتباطية بين الإنسان والإنسان من ناحية أولى، وبين الإنسان والطبيعة من ناحية ثانية. من هنا كان لها، في الواقع، تلك الانعكاسات الاشتراطية المباشرة على نوعية سلوك ونشاط الأفراد في إطار المجتمع وإزاء الطبيعة أيضاً. ولقد اتبع العلماء والفلاسفة مناهج مختلفة بهدف البلوغ إلى النتائج المثلى فجاءت استنتاجاتهم، بدلاً من هذا، متنوعة وتعليلاتهم متباينة واقتراحاتهم متفاوتة. هذا ما سوف نختصر في استعراضه في الباب الأول من هذا الكتاب.
بيد أنه من الجدير بالذكر أن المسألة الأساسية في هذا المؤلف تتجسد بمحاولة اعتماد معايير جديدة لقياس وتحليل وتفسير مقومات وطبيعة العلاقة بين الإنسان والمجتمع، بين ميول وأهواء وحاجات الإنسان الطبيعية المجردة من ناحية أولى، وبين أحكام ومقتضيات الكيان والحياة الاجتماعية من ناحية ثانية. التسوية بين هذين المتناقضين، أي بين دوافع وأشكال السلوك والنشاط العملي المتفرد والمستقل والطبيعي وبين مؤشرات الحد الأدنى من مقومات القيام الاجتماعي والسلوك المناسب إن لم يكن المطلوب اشتراطاً، عملياً، تمثل مجالاً رحباً لظهور المقولات المذكورة بمظهر المشكلة التي تتطلبحلاً مقبولاً. لكن هذا أيضاً يقف خلف ظهورها بمظهر الوسيط الذي يتم بفضله تركيب عناصر البنية الترابطية لهذه المقولات، وقاسمها المشترك الأكثر تعقيداً.
على أنه، تترسخ في المجتمعات، وبتتابع تراكمي انتقائي تاريخي، نماذج من الوعي العام حول كيفية ضبط تلك العلاقة وتحديد أشكالها، والتي تتخذ صيغة مبادئ ومؤشرات ضمن جملة اعتبارات الفرد لدى مداخله النشاطية العملية والسلوكية الروحية إلى الظواهر التي تواجهه في الممارسات اليومية. أما مبادئ الضبط الاجتماعي المتراكمة عفوياً، فهي ما يُسمى بالمبادئ الكونفورمية، في حين سنطلق على المبادئ المستحضرة عمداً والفاعلة ترافقاً مع مرحلة محددة بالكونفورميا الإسقاطية.
إذن، هذا الكتاب، ينصب على محاولة اعتماد الكونفورميا معياراً ممكناً، وربما مدخلاً لتطلعات علمية أوسع، وذلك لمحاولة تفسير مجموعة من الظواهر الاجتماعية والمقولات الفلسفية. إضافة إلى ذلك، يتعرض هذا الكتاب، بالتحليل والتفسير والتوضيح، لعدد من الاتجاهات الفكرية، ولمجموعة هامة من الأفكار والمواقف النظرية والمقترحات العملية والمعطيات التجريبية الجديدة. وأنه لمن الحاجة بمكان الإشارة مباشرة إلى أننا، وفي أثناء عرض هذه الأفكار والمواقف والمعطيات، لن نتبع التتالي أو التسلسل التاريخي أو غيره من المعايير المتعارف على اعتمادها عادة. إننا نعترف، أن غايتنا في هذا الكتاب هي التي تستقطب كل الجهد وتستولي على منهجنا إلى حد ما، وبالتالي التعرض لبعض المواقف والأفكار والاتجاهات إنما سيأتي متسلسلاً وفق متطلبات البحث وبالشكل الذي يخدمه على النحو الأفضل.
هذا الكتاب، بهذا المعنى، لا يبحث ظاهرة الكنفورميا إلا بالتناسب الكمي والكيفي مع الحاجة الوظيفية لتأدية دورها كمعيار في محاولة تحليل وتعليل ظواهر الوعي والمقولات الفلسفية والعلاقات الاجتماعية التي هي موضع اهتمامنا.
ولئن كانت فترة طويلة من البحث الدؤوب والمتواصل قد أثمرت هذا المؤلف، فإن سعادتي عظيمة أنه قد يمثل إسهاماً حقيقياً في إضاءة جديدة لبعض من جوانب المسائل الاجتماعية والسياسية التي يعاني منها المجتمع والإنسان عموماً، والمجتمع والإنسان العربي قبل غيره وأكثر من غيرة.
المؤلف