إذا تأملنا نتائج البيداغوجية المعرفية وممارساتها الديداكتيكية، فإننا نلاحظ أنها تجسد معايير وغايات النسق التربوي الذي يرى في المدرسة أداة للمحافظة على نماذج السلوك السائدة والقيم السالفة، انطلاقا من كون المعرفة ثابتة يتم نقلها بواسطة المدرسة من جيل إلى آخر. ولهذا النسق سمات عامة تميزه، فمنها ما هو بنائي وما هو وظيفي:
- يتميز بنائيا من بنية إدارية هرمية في اتخاذ القرارات، وتتميز شبكات العلاقات والتفاعلات بالتواصل العمودي، وبوجود حواجز بين بنيات هذا النسق إداريا وتربويا.
- ويتميز وظيفيا بتخطيط إداري للتربية، ينبني على منطق تنفيذ التعليمات الرسمية، وتطبيق ما خطط له بدءا بالمسؤول الإداري إلى المسؤول التربوي (المفتش) إلى المدرس فالمتعلم. فداخل هذه العلاقة، غالبا ما يفتقد حس المبادرة والتجريب، وتغيب عملية التصحيح المستمر لآليات وسيرورات النسق التربوي.
2- البيداغوجية الفارقية:
تطلق البيداغوجية الفارقية على بيداغوجية الفروق الفردية، وهي عبارة عن إجراءات وعمليات تهدف إلى فعل التعليم والتعلم، متكيفا مع الفروق الفردية بين المتعلمين قصد جعلهم يتحكمون في الأهداف المتوخاة. وهي بيداغوجية تقوم أساسا على السيكولوجية الفارقية التي برهنت نتائجها على أن الأفراد، منذ ولادتهم، يتميزون بعضهم عن البعض في مجالات عدة، وأن وتيرة النمو الطبيعي، عندهم، يختلف نتيجة لعدة عوامل يرتبط بعضها بالجانب الوراثي، وبعضها الآخر بالظروف البيئية والاجتماعية.
وعلى هذا الأساس السيكولوجي الفارفي تأسست البيداغوجية الفارقية، إيمانا منها بضرورة مراعاة الفروق الفردية والجماعية بين المتعلمين. إن الاختلافات الفردية التي يقرها علم النفس الفارقي، ظاهرة عامة تشترك فيها جميع الكائنات الحية. وتعود هذه الاختلافات إلى أسباب عدة؛ منها ما يرجع إلى العوامل الوراثية عند الفرد، ومنها ما يعود إلى العوامل البيئية والاجتماعية. وكل تصرف أو سمة من السمات الخاصة بكل فرد، تتوقف على العوامل المذكورة في صورتها التفاعلية.
فإلى جانب هذه الاختلافات الفردية، هناك اختلافات وفروق بين الجماعات، كالفروق بين الإناث والذكور، بين أهل الأرياف وأهل الحواضر، بين ساكنة المناطق الجبلية وساكنة السهول، بين ساكنة المناطق الحارة وساكنة المناطق الباردة.. بين الفئات المختلفة بالأقسام المشتركة في التعليم بالوسط القروي (أنظر موضوع التدريس بالوسط القروي).
إن معرفة الفروق الفردية، إن كانت تهدف إلى فهم أشكال الاختلاف بين الأفراد والجماعات قصد تحديد سلوكياتهم، فإنما ذلك لغاية أعظم، هي ضبط وملاءمة فاعليتنا في المجال التربوي، وخاصة عندما ندرك حق الإدراك أن الاختلاف الفردي والجماعي هما مسألتان خارجيتان لا يتحكم فيهما الفرد أو الجماعة، بقدر ما تتحكمان فيه أو فيها.
فإذا كان أصحاب التيار الوراثي ينطلقون من تصور إيبستيمولوجي عقلاني ذاتي، وكان أصحاب التيار البيئي يستمدون نظرياتهم من تصور إيبستيمولوجي وضعي موضوعي، فهناك تيار ثالث يجمع بين العاملين معا، منطلقين في ذلك من تصور إيبستيمولوجي بنائي عقلاني تطبيقي. والحقيقة أن الفصل بين ما هو وراثي وما هو بيئي في شخصية الفرد والجماعة أمر عسير؛ خاصة وأن العامل البيئي يدخل في عملية تخصيب البويضة في الرحم، كما أن العامل الوراثي لا يتوقف خلال هذه العملية، بل إنه يستمر باستمرار حياة الفرد، بحيث أن العديد من الأمراض الجسمية والنفسية التي يتعرض لها الفرد خلال حياته، قد تكون ذات أصل وراثي يشجع على ظهورها في وقت معين، العامل البيئي الخارجي.
من هنا، تأتي أهمية التفاعل بين العاملين معا في شخصية الفرد والجماعة. وتترسخ القناعة بأنهما مكونان أساسيان لها. إن الأخذ بعامل واحد دون سواه، مسألة تنم عن قصور في إدراك حقيقة الذات / الجماعة، ما دام المنتوج المعرفي والحس حركي والوجداني هو حصيلة معادلة تفاعل العاملين المذكورين. لقد ذهب بياجي في منهجه البنائي في تحليل نمو البنيات الذهنية وقدرتها على استيعاب الوضعيات الإشكالية التي يواجهها الفرد، على أن التعلم يحدث في عملية التفاعل بين الذات المتعلمة وبيئة المتعلم / المحيط،، نتيجة استيعاب الذات الموضوع الإشكال Assimilation، وذلك من خلال العمليات الذهنية الملائمة. وقد يكون الأمر معكوسا، بحيث يؤثر المحيط على الذات، وعندئذ يحصل التلاؤم Accommodation. وعلى هذا الأساس، فإن عملية بناء المعرفة إنما هي تفاعل بين الذات والمحيط الخارجي. ذلك هو منطق التصور الإيبستيمولوجي التفاعلي للنظرية التكوينية.
انطلاقا مما سبق، يمكن القول إن البيداغوجية الفارقية تقود بالضرورة إلى التعليم المفردن أو تفريد التعليم باعتباره إجراء تعليمي ينطلق، من حيث أهدافه ومضامينه وطرقه وبرمجته، من خصائص المتعلم، متيحا بذلك لكل متعلم على حدة، تعليما يتناسب مع حاجاته ويتلاءم مع قدراته وإمكاناته، ويتماشى مع ميوله واهتماماته.
ويمكن أن ننظر إلى التعليم المفردن القائم على الفروق الفردية من حيث هو:
- تصور فلسفي يرتكز على الاختلاف والتنوع بدلا من التوحيد والتنميط.
- اتجاه ذو نزعة إنسانية يؤمن بالحرية الفردية وبضرورة مراعاة ظروف كل متعلم وأخذها في الحسبان عوض التقييد والإلزام.
- مفهوم يؤكد تعددية مصادر المعرفة وتنوعها.
- نموذج تربوي يدعو إلى تعدد الأنشطة التربوية / التعليمية، منطلقا بذلك من فرضية أساسية مفادها أن المتعلمين يتمايزون من حيث أساليب تعلمهم ووتيرتهم، الأمر الذي يفرض الاستناد إلى:
* احترام الفروق الفردية القائمة بين المتعلمين.
* صياغة أهداف التعليم انطلاقا من حاجات المتعلمين و إنجازاتهم الخاصة.
* توظيف طرق بيداغوجية تستمد فعاليتها من قدرتها على جعل المتعلم يحقق الأهداف المسطرة اعتمادا على قدراته الخاصة.
بهذا، فإن التعليم المفردن أو البيداغوجية الفارقية تحقق مجموعة من الميزات، منها:
- أنه تعليم قصدي يراعي الخصوصية الذاتية لكل متعلم.
- أنه تعليم يعتبر أن لكل متعلم الحق في النجاح والتفوق، فالمتعلم مسؤول عن مسار تعلمه، إذ يسعى إلى تحقيق أهدافه التي رسمها بمساعدة مدرسه.
- أنه تعليم يعمل على تقويم مردودية المتعلم انطلاقا مما أنجزه، اعتمادا على مجهوداته الخاصة، بعيدا عن أية عوامل خارجية، كمقارنة نتائجه بمردودية غيره من المتعلمين.
لقد حدد بيرزي (Birzéa 1982)، في كتابه "بيداغوجية النجاح" Pédagogie du succès السمات البيداغوجية الفارقية والإجراءات الديداكتيكية لتطبيقها، وهي كما يلي:
أ- سمات البيداغوجية الفارقية:
1) كونها بيداغوجية مفردنة تعترف بالمتعلم كشخص له تمثلاته الخاصة.
2) كونها بيداغوجية متنوعة تفتح مجموعة من المسارات التعلمية تراعي فيها قدرات المتعلم.
3) كونها تعتمد توزيعا للمتعلمين داخل بنيات مختلفة تمكنهم من العمل حسب مسارات متعددة، ويشتغلون على محتويات متمايزة بهدف استثمار أقصى إمكاناتهم وقيادتهم نحو التفوق والنجاح.
ب- الإجراءات الديداكتيكية لتطبيق البيداغوجية الفارقية:
1) انتقاء الأقسام والمواد.
2) جرد الأهداف العامة للمواد المدرسة.
3) تحديد الأهداف الخاصة مع مراعاة عامل الوقت ودرجة التحكم في المنهجية.
4) اختيار وإعداد البنيات الملائمة.
5) تعيين الأهداف الإجرائية المراد تحقيقها.
6) تحديد المقاطع الديداكتيكية ومعيار النجاح.
7) إنجاز تقويم جردي.
وكاستنتاج نهائي، يمكن القول، إن البيداغوجية الفارقية أو التعليم المفردن، تقوم أو يقوم على تطبيق أساليب وتوقعات ديداكتيكية موازية لما تفرضه المجهودات الخاصة لكل فرد فرد، وبذلك، يختلف (التعليم المفردن) عن التعليم الجماعي القائم على مبدأ تجانس المتعلمين وتوحدهم، رغم الاختلافات والفوارق الفردية، وذلك من أجل تحقيق الأهداف المرغوب فيها.
3- بيداغوجية المشروع وبيداغوجية حل المشكلات:
تقوم بيداغوجية المشروع وبيداغوجية حل المشكلات على فلسفة ديوي J. Dewey في التربية، التي ترى أن غاية التربية هي: ارتباطها بالنشاط في مجالاته الحاضرة المتعلقة بالحياة، والتي تمكن من الاختيار الحر وتحقيق المشروعات وحل المشكلات في الحياة. فالتربية تعلم الأفراد كيف يحققون مشاريعهم ويحلون المشاكل التي تعترض طريقهم، من أجل تحقيق ذواتهم. ولهذا يلزم أن يكون المنهاج التعليمي مشتملا على التجارب والأنشطة الحية، لا على المعارف السابقة، ويلزم ربط المتعلم بتجربة الحياة اليومية.
أ- بيداغوجية المشروع:
يعتبر المربي الأمريكي كيلباتريك Kilpatrick، أول من وضع المبادئ العامة لبيداغوجية المشروع، حيث انطلق من اعتبار أن ساس المشروع هو الغرض الذي يستولي على المتعلم ويريد تحقيقه. وكان هدف كيلباتريك من بيداغوجيته، أن يوجد موقفا تعليميا يجتمع فيه وضوح الغرض والنشاط التعليمي، ويمتزج فيه النشاط العقلي بالنشاط الجسمي في وسط اجتماعي، يشتمل على علاقات اجتماعية، تحقق نمو المتعلم وتحويله إلى مواطن يتمكن من أن يعيش في مجتمع ديموقراطي.