من سمات القصة القصيرة جدا:
1-التكثيف:
يعمد كتاب القصة القصيرة جدا إلى الجمل القصيرة المكثفة التي تصور عالماً رحباً تتسع دلالاته مع كل قراءة جديدة.
تقول فوزية الشدادي في قصة «خيانة»:
« بعد عودته من رحلته مكث طويلاً أمام الباب يحاول فتحه ... كان الباب قد كبر، وكبر ومازال المفتاح صغيراً !!!!!!!»
(2).
إنها قصة تسرد عالماً من المشاعر المتناقضة التي يُحدثها الغياب المادي والمعنوي. وهي في قصتها التي تتصف بنوعٍ عال من التكثيف ترينا أن هذا الغياب مثَّل خيانة، ومن ثم فقد جوزي هذا الغائب عند عودته بعدم القدرة على التماس مع الآخرين.
وتقول هيام عبد الهادي صالح في قصة بعنوان «المساخيط»:
«قال زوجي إن الجبل يغضب حين نحفر لنكشف ستره، ونُخرج المساخيط الأثرية من جوفه. ولذلك فإنه وجد مسخوطة خوجاية ـ كركوبة في عمر أمه ولا العوزة للجبل ـ ستتزوجه وتُسافر به، ويعود حين تسأمه، ولديه ما يكفي لتجهيز أكبر بازار في البلدة»
(3).
وهذه القصة قد قالت في سطور قلائل ما تريد قوله، فأوربا تنتج التماثيل الشمعية المُعاصرة التي بلا روح، بينما أنتجت الحضارة المصرية القديمة تماثيلها الباقية، ولذا فالزوج هنا ـ بعد أن ضن الجبل وبخل عن إعطاء مساخيطه / تماثيله، ليبيعها للسائحين ويتعيّش منها، قرر أن يذهب ويتزوج امرأة أوربية عجوزاً ـ بلا روح ـ وعندما سينتهي غرضها منه أو تموت ـ وهو ما لم تقله القاصة عنها؛ بينما أشارت إليه،فهي ـ أي الأوربية ـ «كركوبة» أي طاعنة في السن، وعندما ينتهي الغرض من الزواج فسيعود الرجلُ ويفتتح معرضاً لبيع الآثار، ولا ندري هل سيغضب الجبل ساعتها أم سيبارك هذا المعرَض؟
وفي قصة حورية البدري «للبيع» تستبطن تجربة صوفية، وتُريد أن تنقلنا إلى تجربة معيشة في كلمات قلائل:
«قال سهل التستري : سجدت 00 وعندما نهضت من السجود ؛ ظل قلبي ساجدا.
أحببت الحالة 00 وأحببت سهلا التستري في الله.
حاولت الوصول للحالة كثيرا 00 كانت النتيجة في كل مرّة مختلفة 00 شيء واحد كان يحدث دائما 00 كنت أجد فاكهة الصيف والشتاء في مطبخي دون أن أذهب إلى السوق 00 لا بيع ولا شراء 00 لا حاجة بي لذلك 00 فكل شي هنا ! 00 » (4).
إنها تتحدث عن نوع من المُجاهدة النفسية، قد نستصعبه معنويا، أو نرفضه موضوعيا أو عقديا، كعالم ينبتُّ عن الحياة أو العقيدة، لكنها استطاعت أن تنقله في عدد مكتنز من الألفاظ، وبه استطاعت أن ترينا أن «عالم القص الروائي يعد أقرب الأشكال الأدبية اللغوية لحركة الحياة، فهو عالم مصغر لعالمنا، وهو يقف موازياً له وقريباً منه. والفرق بين عالم القصة الخيالي وعالمنا التجريبي، أن الأول محدود ومركز وأكثر حبكة ونظاماً في حين أن عالمنا التجريبي عالم واسع وعريض وتختلط فيه الأمور اختلاطاً قد يصل إلى حد التهويش وغياب المنطق، وبعبارة أخرى فإن عالم القص عالم متخيل ومصنوع صنعة محكمة في مقابل عالمنا الواقعي الذي تسير فيه الأمور مشتتة، كما يحلو لها أن تسير»
(5).
ومن هذه القصص قصة «المايسترو» لحورية البدري، التي تؤكِّد على الأمل والإرادة والمُقاومة في وجه الأمور المثبطة؛ فهاهو عصفور الكناريا المحبط، يقاوم، فيأتي نهار الفوز والنصر والإشراق: « عندما رف بعصاه(6) السحرية ـ كمايسترو ـ على بوابة الليل، مُشيراً إلى عصفور الكناريا المُحبط انتفض العصفور، تحرك بين سياج الليل الدامس. لم يتأكّد من اقتراب أنوار الفجر، لكنه شعر برغبة في التغريد، أقنعه المايسترو بأن التغريد قد يوحي لأنوار الفجر بالإشراق، تأتي لترى العصفور النائم طول الليل بين الثعابين ... أخذ يغرد، فتشجعت أنوار الفجر، وبدأت تنتشر حول ترنيماته العذبة، وأخذت الجبال تؤوب معه والطير، فظهر قرص الشمس وابتسم، وانسحبت الثعابين لتختفي في جحورها البعيدة»
(7).
ومن هذه القصص المكثفة التي تتناول مصادرة حرية الإنسان، مما يسبب اختناقه قصة هيمى المفتي «اختناق»، وتتحدث عن رجل وضع السدود والقيود فسبب الاختناق لزوجته، ثم أراد تحسين الظروف فبقيت القيود هيَ هي، وظلت تشعر بالاختناق:
«شيد جدرانه حولها، فانحبس الهواء في المكان، وكادت تختنق .. حرصاً على حياتها فتح نافذة اختار مكانها بعناية بحيث لا تطل سوى على فضائه الرحب الواسع .. تنفست هواءه بعمق .. من جديد شعرت بالاختناق.. »
(8).
ومن هذه القصة قصة «سعاد حسني» لمجدي محمود جعفر، التي تتناول عالم الخواء العاطفي عند المرهقين حيث يتحول الوهم إلى حقيقة، ويُعايشه المُراهق كأنه واقع يلون رؤاه، ويُفسده عن رؤية حقائق الحياة، ويصرفه عن دروسه ومتطلبات دراسته:
«أقسم الولد قائلاً: إن سعاد حسنى عندما تظهر على الشاشة – تلهيني عن المذاكرة وتشغلني عن كل شيء في الدنيا، تأسرني بعينيها الجميلتين، وتجذبني بخفتها ورقتها، تنثر زخات ضوءٍ تبدد مساحة العتمة، وأظل أدور في مساحة جسمها الضئيل وملامحها الدقيقة.
غطت صورها حوائط غرفتي، وأغلفة كتبي وكراريسي المدرسية، وملأت فراغ قلبي، وشغلت تفكيري، تتسلل إلى غرفتي في الليل تداعب أصابع البيانو، تغمز لي بعينيها الجميلتين، تعزف وترقص وتغنى وتتشابك أيادينا وتتعانق عيوننا، وتمضى بدلالٍ وغنج، وفى الصباح أستيقظ وألعن نساء قريتنا البدينات وبناتها المسترجلات!!»
(9).
لكن محاولة التكثيف لدى القاص قد تصيب الحدث في مقتل، فلا. ومنه هذه النص لجبير المليحان، بعنوان «رثاء ـ 11»:
« ظل صامتا ، وهي تضع في الحقيبة ما تبقى لها من حياة. التقت عيناهما، و قالتا كل السنين، وهي تغلق الباب. تَـلَفّتَ في جسد الصالة الخاوي، وأعناق الزوايا المتهدلة، و أكوام الذكريات اليابسة، و تشعب ألم البكاء في قلبه ...»
(10).
هذه القصة ومضة، ومع تكثيفها أرى أنها لم تتم، فالقصة القصيرة جدا، لا بد لها من حدث مكتمل، يشير ولا يصرح. وأنا أرى أن هذا النص لم يكتمل، تنقصه ومضة .. إشارة .. جملة ما.. حتى يصير النص قصة قصيرة جيدة مكتملة، كقصص جبير المليحان الأخرى .. العجيب أن بعض المعلقين يكتبون (خواطرهم) التي فجّرها النص .. لا نقدهم، وأحياناً تُكمل ما لم يقله القصة. ومن هذه التعليقات تعليق للقارئة وفاء العمير، التي أشارت إلى: «الجانب الإنساني المتهدم الذي حاول القاص هنا أن يرسمه، ما تبقى من حياة الزوجة، تحمله في حقيبة وتغادر، العيون تلتقي بوجع مؤلم يحاول أن يكون لا مبالياً، سكون المكان، بكاؤه، وذهوله أمام اللحظات المتكسرة نزفاً وسقوطاً؛ الحياة التي ينفض كل من الزوج والزوجة تفاصيلها الصغيرة والحميمية عن أيامهما القادمة وكأن اللحظات الماضية لم تحتفِ بها. خرجت المرأة مغلقة خلفها باب العودة ، فوجد الزوج نفسه وحيداً، تماماً كما لم يكن ينتظر، لوت (هي) عنق الأمل ورحلت، فيما (هو) تكوم على كرامة ودّ ألا تخذله في تلك اللحظة، انتصرت كرامته وهجمت عليه هزيمة الحب! ... اختار القاص أن تكون اللغة مكثفة، واللحظات متسارعة ومشحونة بالألم، أحياناً لا تحتاج إلى مساحة كبيرة من الوصف لتضع يدك على الجرح، يكفي أن يصل إليك كومضة تقف طويلاً على نافذة إدراكك دون أن تغادر!» (11).
ـــــ
الهوامش:
(1) من ورقة ألقيت في قسم الأدب بكلية اللغة العربية بالرياض، في يوم السبت 26/4/2003م، وقد زيدت فيها بعض الفقرات قبل نشرها في منتدى القصة العربية.
(2) فوزية الشدادي: خيانة، موقع «القصة العربية» على الإنترنت، في 7/6/2002م.
(3) د. هيام عبد الهادي صالح: وللجبل أغان أخرى، سلسلة «أصوات معاصرة»، العدد (69)، مايو 2001م، ص69.
(4) د. حورية البدري: للبيع، موقع «القصة العربية» على الإنترنت في 20/3/2003م.
(5) د. نبيلة إبراهيم سالم، مرجع سابق، ص7.
(6) في النص: بعصاته، والصواب ما أثبتناه.
(7) د. حورية البدري: المايسترو، مجلة «المنتدى»، العدد (196)، نوفمبر 1999م، ص23.
(8) هيمى المفتي: قصص قصيرة جدا، موقع «أصوات معاصرة» على الإنترنت، في 1/2/2003م.
(9) مجدي جعفر: أصداء رحلة شاب على مشارف الوصول، سلسلة «أصوات معاصرة» العدد (52)، يناير 2000م، ص 125 .
(10) جبير المليحان: رثاء ـ 11، موقع القصة العربية، في 3/5/2003م.
(11) وفاء العمير: تعليق على قصة جبير المليحان «رثاء ـ 11»، موقع «القصة العربية» على الإنترنت، في 4/5/2003م.
***
(يتبع)