والحقيقة أن ما ينبغي أن نطالب به ،هو تغيير المنهاج برمته (برامج ، مواد وكتب مدرسية ، التنظيمات البيداغوجية للسنة ، الطرق، الإيقاعات والأغلفة الزمنية ، الاختبارات وأساليب القياس والتقويم ومعاييره....) مع إحداث التعديلات الضرورية في هذا النموذج المتمحور على الكفايات ، بما سيشكل نموذجا منهاجيا أصيلا نابعا من خصوصيتنا ومن حاجياتنا، عوض الاستمرار في التركيز على المحتويات والمواد والتنظيمات السائدة ،كما هو الشأن في المنهاج "القديم" ومحاولة تطبيق (فوطوكوبي )مقتضيات بيداغوجيا جاهزة "جديدة ".
ولنا مثال آخر على تطبيق بيداغوجيا الإدماج بشكل غير مندمج وغير ملائم ، يكمن في عدم مواءمة ما تسعى اليه بيداغوجيا الإدماج من إخضاع كل المستويات التعليمية لنفس التقويم، أي التقويم انطلاقا من الوضعيات المركبة؛حيث أن عملية التركيب التي يجب أن يقوم بها كل المتعلمين على حد سواء ومهما كان مستواهم وبغض النظر عن سنهم لمواجهة هذه الوضعيات ،تنتمي إلى العمليات العقلية العليا(حسب كل الصنافات)،وهذه العملية العقلية المجردة والعليا تتطلب عمليات ذهنية أخرى سابقة ( حفظ ،إدراك وفهم، ربط،انتقاء،استنتاج....).وبما أن معظم المتعلمين في التعليم الابتدائي، وحسب القوانين المرتبطة بمراحل نمو ذكاء الإنسان ،كما اكتشفها جان بياجي ،هم إما في مرحلة الذكاء المشخص أو مرحلة الذكاء ما قبل العملياتي،أو مرحلة الذكاء العملياتي الحسي،فلا يجوز تقويم تلاميذ كل المستويات الدراسية(وخصوصا الدنيا منها) من خلال وضعيات مركبة،والتي تستند على معطيات رمزية و مجردة . ذلك أن التركيب كعملية عقلية عليا لا يكتمل نموه إلا خلال المرحلة الأخيرة أي مرحلة الذكاء العملياتي الصوري/المجرد،حولي 11/12 سنة وما فوق). وهذا ما لمسه المدرسون والباحثون على حد سواء.
"الكل يعرف أن المتعلمين يجدون صعوبات كبيرة فقط في تذكر الموارد(المعرفة أي الحفظ والاسترجاع حسب صنافة بلوم) ، فما بالك أن المتعلم سيجد نفسه أمام مهمة مزدوجة ومعقدة: تذكر الموارد وتركيبها لحل وضعية معينة"(انظر محمد صدوقي، 2011).
بطبيعة الحال لسنا مطالبين ان ننتظر اكتمال نمو عملية عقلية عليا حتى نطبقها ،بل بإمكاننا المساعدة على نموها في الاتجاه الصحيح وبشكل تدريجي وفي هذه الحالة يختار المدرس ( بكل حرية وبناء على معرفته المباشرة واليومية لتلاميذه)تمارين و تطبيقات ووضعيات سهلة وبسيطة تكون في مستوى النمو العقلي للتلميذ ، ثم ينتقل شيئا فشيئا نحو ما هو اقل بساطة و أكثر تعقيدا.
سابعا : بين بيداغوجا الإدماج والمنهاج المندمج للمؤسسة
تتبنى بيداغوجيا الإدماج مفهوم الإدماج الذي وضعه المجلس الأعلى للتربية في كيبك بكندا ، والذي يعرفه بكونه "السيرورة التي يربط بها التلميذ معارفه السابقة بمعارف جديدة، فيعيد بالتالي بناء عالمه الداخلي، ويطبق المعارف التي اكتسبها في وضعيات جديدة ملموسة". نستشف من هذا التعريف الضيق ،ما يأتي:
-الإدماج هو ربط المعارف السابقة بالمعارف الجديدة، وتركيبها، ثم توظيفها لحل وضعيات-مشكلات جديدة.
-إن إدماج المكتسبات عملية شخصية وفردية بالأساس، لا يمكن أن يقوم بها متعلم مقام آخر.
لكننا نقترح في تصورنا للمنهاج الدراسي، أن يتسع مفهوم الاندماج حتى لا يبقى محصورا في جانب واحد من النشاط الذهني للمتعلم وهو إدماج الموارد والمكتسبات .لأن ذلك في نظرنا هو العيب الأساسي لبيداغوجيا الإدماج، إنها بيداغوجيا تقنية تجزيئية وسلوكية في العمق رغم ادعائها بالاشتغال في إطار مدخل الكفايات وهو مدخل معرفي - ذهني، فلا تختلف كثيرا عن بيداغوجيا الأهداف السلوكية بل تختلف عنها كما أثبتنا ،شكلا وليس في المضمون.
بطبيعة الحال فإن الحديث عن الوضعيات وتعويد التلاميذ على مواجهة المشكلات ،في هذه البيداغوجيا خاصة في حمولتها الاجتماعية ، فيه إلى حد ما ، سعي نحو الاندماج . لكنه اندماج ضمني ويركز على دمج التعلمات فلا تتضح أبعاده الاجتماعية وغاياته الشمولية التي ينبغي إظهارها وتوظيفها منذ البداية ، سواء في محتويات البرامج او في أساليب أدائها و في طبيعة الأنشطة الموازية او في مشاريع المؤسسة وغيرها والتي ينبغي ان تعزز ما تستهدفه المدرسة من اندماج حقيقي في المجتمع بشكل شمولي .
لذلك فإننا قدمنا منذ سنوات ، تصورا أكثر شمولية ،أسميناه "المنهاج المندمج للمؤسسة" (م 3) والذي يتسع فيه مفهوم الاندماج (نظريا وعمليا) ليشكل نسقا متكاملا . من بعض مميزاته أنه يمنح على سبيل المثال، المناطق والمؤسسات والجهات، سلطة ( حرية) تعديل ومواءمة المقررات الدراسية، للاحتياجات والخصوصيات المحلية مع احتفاظها بالأسس المشتركة في المنهاج الوطني العام أي نسمح للمدرسين والقائمين على التعليم عموما بنوع من المرونة بدل النمطية والأحادية اللتان تميزان كلا من بيداغوجيا الأهداف و بيداغوجيا الاندماج، شريطة خلق نوع من التوازن بين المستوى الوطني والمستوى الجهوي .
ويمكن أن يتشخص هذا النوع من المناهج في مشاريع الشراكة التربوية ، حيث تترك للمؤسسات حرية المبادرة وعقد اتفاقيات تعاون و شراكة مع القطاع الخاص وفعاليات المجتمع المحلي،وتعديل مناهجها الدراسية بشكل مندمج ، بما يساير خصوصياتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ويلبي في نفس الآن احتياجات التلاميذ ومتطلبات أسرهم.كما يساير مختلف المستجدات في مجال بناء وتطوير المناهج التعليمية وما ظهر حديثا في مجال إدارة الجودة الشاملة واعتماد معايير الجودة في التعليم (انظر محمد الدريج " المعايير في التعليم ،نماذج وتجارب لضمان جودة التعليم " ،2008).
هذا وقد وجدنا لهذا النموذج بعض الآثار في نظامنا التعليمي، فمثلا تحدد نسبة حرية التصرف في المنهاج الوطني بالتعديل وإضافة مواضيع جديدة، و المتروكة جهويا للمؤسسات ، في 15 بالمئة. .( محمد الدريج،1996 و 2002).
ونحن بصدد تطوير وتحديث هذا النموذج والذي سنخصه قريبا بدراسات مستقلة،لكن يمكننا أن نشير الآن إلى أن الاندماج المنشود ينبغي أن يسير بشكل متواز ومتكامل في أربعة اتجاهات :
1- اندماج على مستوى المنهاج بمختلف مقرراته وهو اندماج أفقي (مستعرض) بين المواد الدراسية.
2- اندماج منهاجي على مستوى الأهداف العامة أو الكفايات الأساسية ، (المعارف ، المهارات ، منظومة القيم /الأخلاق ،الهوية ، مشاعر المواطنة...).
3- واندماج على مستوى المؤسسة. سواء داخل المؤسسة (بين أطرها وتنظيماتها وروادها من التلاميذ) وبينها وبين البيئة المحلية ( الطبيعية والمجتمعية والثقافية).
4- واندماج على مستوى المنطقة ( الجهة) والوطن أي على مستوى المجتمع ككل.
المراجع
-عبد الرحمن ابن خلدون (1960). " المقدمة"، (ج3، ص983). تحقيق علي عبد الواحد وافي، لجنة البيان العربي .
-عبد الكريم غريب ( 2010):" بيداغوجيا الإدماج "، منشورات عالم التربية –الدار البيضاء.
- عبد الكريم غريب( 2004 )" بيداغوجيا الكفايات". منشورات عالم التربية، البيضاء ط5
- عبد العزيز قريش (2011)، "بيداغوجية الإدماج وفق التجربة المغربية /.عن موقع منتدى الجمعية الوطنية لمديرات و مديري التعليم الإبتدائي بالمغرب ، 5 يناير 2011
-عبد الإله عسول ،( 2011 )"بيان نقابي حول بيداغوجيا الادماج"مدونة سيدي سليمان ،SidiSlimane.com ، يونيو.
- منتديات دفاتر التربوية منتديات دفاتر التعليمية (2011) "الاستفتاء الوطني حول بيداغوجيا الادماج" / ماي 2011).
- محمد الدريج (1996) : "مشروع المؤسسة والتجديد التربوي في المدرسة المغربية"، (في جزئين)، سلسلة دفاتر في التربية ـ الرباط.
- محمد الدريج (2002): "الكفايات في التعليم"، سلسلة المعرفة للجميع، العدد 16، الرباط.
- محمد الدريج (2002): "الشراكة التربوية في التعليم الثانوي: مشروع المؤسسة نموذجاً"، مداخلة ضمن أعمال المؤتمر الدولي حول: التعليم الثانوي من أجل مستقبل أفضل"، وزارة التربية والتعليم، مسقط، سلطنة عمان.
- محمد الدريج (2008):" المعايير في التعليم ،نماذج وتجارب لضمان جودة التعليم " ، منشورات سلسلة المعرفة للجميع، الرباط.
- محمد صدوقي ،( 2010)"شروط إنجاح بيداغوجيا الإدماج"، الاتحاد الاشتراكي ،عدد 11-11-2010 ،الدار البيضاء.
- مراد لخصيم (2011).،تعلم الإدماج: هل هو مستجد في المناهج المغربية؟، موقع وجدة البوابة على النت.
-يوسف قطامي (2002) "إدارة الصفوف : الأسس السيكولوجية"، : دار الفكر, عمان الأردن.
- كزافيي روجييرس Xavier ROEGIERS (2007) ترجمة عبد الكريم غريب، "التدريس بالكفايات ووضعيات لإدماج المكتسبات"، الطبعة الأولى ، منشورات عالم التربية، الدارالبيضاء.
-ROEGIERS, X. (2010). Des curricula pour la formation professionnelle initiale. La pédagogie de l'intégration comme cadre de réflexion et d'action pour l'enseignement technique et professionnel. Bruxelles : De Boeck Université.
-PERRENOUD, Ph. (1999). Construir competencias desde la escuela. Santiago de Chile : Dolmen Ediciones (trad. en espagnol de Construire des compétences dès l'école. Paris : ESF, 1997.