ن قيام كل من الألم و عدم الإشباع،و كذا الطابع اللامحدود للرغبة،يجعلنا نُسائل مع كل راغب إمكانية سعادة الإنسان،لكي نتموقف هنا من هاته الإمكانية موقفان لا غير: إما أن يكون تحقيق السعادة رهينا بغياب الرغبة ذاتها، أو بالقدرة على التحكم فيها؛مما يدفعنا إلى التساؤل: هل وجب علينا التقليص من رغباتنا؟ أمن الممكن تصنيف رغباتنا إلى رغبات حقيقية و أخرى زائفة؟ ما دور الأخلاق في هذا الخضم؟ و هل بإمكاننا حالما اختزلنا رغباتنا بلوغ السعادة؟
منذ القدم و إشكالية الرغبة في علاقتها بمفاهيم كالسعادة،و النفس،و الحاجة...،تستلزم ضرورة التفكير الأخلاقي في الموضوع،و هو ما أثار مواقف متباينة من الإشكالية يمكن إجمالها في موقفين:
1- وجوب اختزال رغباتنا و الحد منها،و السعادة تبعا لهذا الموقف يتم إدراكها كحالة عطالة نبلغها عبر إلغاء كل توتر،لتعتبر الرغبة ذلك الجزء الشيطاني فينا و الواجب نسفه.
2- الرغبة لا يمكن كما لا يجب اختزالها بأي وجه من الأوجه،بالنظر إلى ضرورتها الحياتية،مما يوجب على الأخلاق الإعتراف بقيمتها.
لكن دون أن ننسى وجود حل ثالث لا يمكن إغفاله بأي حال،ألا وهو الإنغماس بلا شرط أو قيد في الرغبات،و هو الموقف الذي سننطلق منه لمعالجة إشكالية العلاقة بين الرغبة و السعادة.
ا لرغبة أم اللاأخلاق:
جاء في محاورة جورجياس لأفلاطون على لسان كاليكلس بأن الإنسان الحي بامتياز لا يعرف التردد،إذ يقول:"لأجل أن نحيا بشكل جيد وجب أن نمنح أهوائنا كل إمكانيات التبلور الممكنة،عوض حصرها و قمعها،و حين تبلغ كل قواها وجب أن نكون قادرين على إشباعها بشجاعتنا،و بذكائنا حتى تتفتح و تبرز" فماذا نحب نحن في عالم السينما أليست تلك الصورة عن إنسان يجرؤ على معايشة استيهاماته بلا حد أو قيد!؟ أن نعشق ضدا على كل الأخلاق و الأعراف الإجتماعية و الدينية القائمة،و أن نجني المال بأي وسيلة كانت دونما اعتبار للمواضعات الإجتماعية و التشريعات القانونية،و أن نسفك دماء بعضنا البعض ضد كل منع أخلاقي،أو قانوني،أو عقائدي...ألا تغذي فينا المسلسلات رغبات دفينة لا نستطيع البوح بها،و لكننا نستهلكها جماعيا و اجتماعيا،فنحيا لدقائق معدودة تتحول إلى ساعات نشوة تحقيق رغبات متعددة الأشكال و الموضوعات!؟ و نطلق العنان لتحرير مسعور لرغباتنا دونما اعتبار لثوابت تربوية،أو أخلاقية،فنجسد رغباتنا في أشخاص-صور نجعلهم واقعيين في أذهاننا في الوقت الذي نعجز في عن تحقيق أبسط هاته الرغبات في الواقع الفعلي!!!هذه بطلة نحرر رغباتنا الجنسية حين تحرر هي رغباتها أمام الكاميرا،و هذا البطل يحرر رغبتنا في الإنتقام مع كل حركة دموية ينجزها وفق تعاليم إخراجية محددة بدقة،فلماذا نحاسب من المفكرين من ينادوا بتحرير الرغبات،ألأنهم امتلكوا من الجرأة الأدبية و الفكرية ما لم تمتلكه،و نقلوا الرغبة من المسكوت عنه إلى المنطوق،و إلى مجال سلطة اللغة الكاشفة و الفاضحة للنوايا الدفينة و الخبيثة!؟
ماذا لو أقحمنا كاليكلس في عالمنا السياسي؟ و في عالم المال و الأعمال؟ الأكيد أنه سيكون مرتاحا للغاية،إذ سيجد توجهاته كلها مطبقة بحذافيرها حتى و إن لم يطلعوا على أفكاره!سيجد توجهات عالم ما بعد الحداثة بمثابة صدى لموقفه الكلبي* / cynisme حول العلاقة بين الرغبة و القوة؛فكيف لنا أن نعترف بالقيمة العليا للعدالة و للإعتدال في الوقت الذي تعج دواخلنا بأفكار من قبيل:"أريد أن أقوم بما أريد،و دونما اعتبار لأحد..."فهل السعي إلى تناول الرغبات في اعتدال معناه الحد منها؟ هكذا سيجيبنا أصحاب هذا الموقف: لا تحدثوننا عن الأخلاق إنما هي موانع تريدون وضعها في وجه رغباتنا لا أقل و لا أكثر.بماذا سيجيب كاليكلس بدوره:"إن الحقيقة التي تزعم يا سقراط البحث عنها هي كالآتي: إن الترف،و الشبقية،و الحرية حين يتم دعمها جميعا بالقوة فإنهم يشكلون الفضيلة و السعادة،و كل تلك الأفكار الجميلة، المواضعات التي لا توافق الطبيعة ما هي إلا ترهات و عدم." بصيغة أخرى،حين نتوفر على الوسائل من مال أو سلطة،نستطيع إشباع رغباتنا،و نسخر من الأخلاق و من العدالة؛بل هنالك منم يعتبرهما من إبداع الضعفاء من البشر لحماية أنفسهم من الأقوياء منهم - كما يدعي كاليكلس نفسه -. ففي الطبيعة ليس هناك لا أخلاق و لا عدالة بشريتين،و ما يسود هو القانون الحقيقي: قانون الأقوى،و من ثمة،فالحياة الحقيقية هي حياة الأقوياء،المتمثلة في ضرب كل اعتبار أو قياس،و في الجشع،و الشبقية،و ليس في حصر الرغبات أو حدها،أو إلغائها! إنها اللأخلاق في أوج حجاجها!!!
لقد كان أول جواب لسقراط على كل ما سبق كالآتي: الأكيد أن لكاليكلس فخر الصراحة،ليقول بصوت عال ما يخفيه العديد منا!إننا بحاجة إلى صورة من مثله حتى نستطيع تأمل جشعنا،و عنفنا الذي نبرره بغطاء الإشباع الفج للرغبات. حقا إن موقف كاليكلس يخيفنا لأنه يوضح لنا عنف هيجان الرغبات؛فالإعجاب الذي نبديه اتجاه القوة يبلغ غايته حين نعي العنف الذي يواكب كل رغبة؛و هذا العنف ليس عنف الآخر: الطاغية،أو القاتل،أو المهووس،أو المتسلط...بل هو عنف قائم فيَّ حين أختار عن طواعية أن لا أنصت إلا لصوت الرغبة؛فأخلاقيات الإشباع اللامحدود للرغبات الرافضة لكل ما عداها،و هو رفض لما هو موجود،فحين لا أنصت إلا لأناي فإني ألغي وجود الآخرين،و أرمي عرض الحائط مصالح الآخرين.إنه الجشع في أكمل صوره حيث نأخذ و نستفيد دون أن نعطي،و لا أحد ممن أوتي و لو قدرا يسيرا من الحكمة أن ينخرط في توجه من هذا القبيل،ليس لأنه ليس لنا جرأة كجرأة كاليكلس بل لأن حججه لا قيمة فعلية لها.
في تصنيف الرغبة أو تحت شعار "قيسوا رغباتكم": لقد أخذ الفلاسفة على عاتقهم منذ الأصول الفلسفية الأولى مهمة البحث عن موقعة الرغبة في المسار الوجودي و الفعلي للذات الإنسانية،و هو ما جعل مساهماتهم تختلف و تتنوع في تصنيف الرغبات بين رغبات طبيعية و أخرى كمالية لا طائل منها غير الألم،و ضياع الجهد،و الوقت،و مهانة النفس،و تكريس سلطة الجسد،و انحطاط كل ما هو إنساني أمام رغبات توصف بالحقيرة .يستعرض أفلاطون في محاورة"فيدون" صورة حياة زاهدة،حيث الإنسان من الواجب عليه مقاومة هيجان الجسد؛ أما أبيقور*فيقدم لنا ضمن نظريته الأخلاقية و التي نعتبرها أخلاقا تجعل من اللذة خيرا،و من الألم شرا،و ذلك لبلوغ السعادة أو ما يسميه بالأتاركسي/ ataraxie *في إتباع لعلاج رباعي القواعد:
- الآلهة لا تُخشى.
- الخوف لا خشية منه.
- الألم من السهل التخلص منه.
- السعادة ن السهل بلوغها.
و هل هذا التصنيف يمتلك من المشروعية ما يكفي ليفرض نفسه كموجه لكل موقف اتجاه الرغبة؟ إنه تصنيف لا يمكن فصله عن فن عيش حيث الرغبات هي موضوع حساب هدفه بلوغ السعادة.و بالنسبة لأبيقور فحساب الرغبات أو رياضيات الرغبة تتعارض مع كل زهد نكتفي فيه بحياة اقتصادية من أجل احترام قانون أخلاقي، و هو ما يؤدي إلى ألآم البدن،و علل النفس.و عموما يقر أبيقور بأن اللذة ضرورية للسعادة،و نحن نبحث عنها بالهروب من الألم،ففي بعض الحالات نتعامل مع الخير تعاملنا مع الشر،لأنه من الضروري الهروب من لذة قد لا تجلب معها في النهاية إلا الألم؛و كمثال على ذلك من الواجب تفادي لذة جنسية عابرة قد لا تحمل معها إلا أمراضا للجسد كالسيدا و الزهري ... أو معاناة نفسية بالنظر إلى استحالة التوحد التام مع من نفترض أننا نحبه!!! أو عدم احترام و تقدير الآخر إيجابيا لي. و في بعض الأحيان قد نقبل بالألم إذا كان عابرا،أو إذا كان شرطا لبلوغ اللذة الأسمى،كصبرنا على المعاناة و الألم أثناء التمارين الرياضية،لكن ما نحصل عليه بعد ذلك من المحافظة على الصحة،و تنمية مهاراتنا الجسدية و النفسية تجعلنا نحس بلذة لا مثيل لها.و محاسبة الرغبات من شأنها أن تُبلغنا حالة الإكتفاء الذاتي عبر الحد من الرغبات و من سلطتها علينا،فنحن لن نقضي حياتنا معتمدين على الآخرين كموضوعات- ذوات محل رغباتنا،و لا في السعي اللانهائي خلف موضوعات خارجية لرغبات تكاد لا تنتهي.فإذا ما اكتفينا بتلبية و إشباع رغباتنا الطبيعية،فإننا بذلك نكون قد اختزلنا حاجياتنا بدورها في الحاجيات الطبيعية.
إذا كان كاليكلس و أمثاله على صواب فسنكون نحن على خطأ حين ندعي بأن من لا حاجة له هو السعيد،فهل الأحجار و الموتى هم فعلا سعداء؟ سنرد عليهم بسؤال: أ و لا نستهدف عبر إشباعنا للرغبة إختزال الحاجة و محوها؟ لنشبه النفس ببرميل،و نشبه الرغبات بثقوب توجد أسفله،فالبرميل الغير المثقوب من السهل أن نملأه،و متى امتلأ لم نعد في حاجة إلى أن نضيف إليه أي شيء يذكر؛فالنفس تخترقها الرغبات في عدد لا يحصى،و كل ما يوضع بها من السهل أن يذهب عرض الريح،بحيث نبدأ مباشرة بالبحث عن ما نملؤها به باستمرار!إنها لا تعرف الرضى و لا الإشباع الذي نسعى وراءه كسراب،كما لو أننا نحكم على أنفسنا بالسعي المحموم اللامنتهي وراء رغباتنا دون بلوغ الرضى،أليست هذه عقوبة جهنمية!؟ إنها عبثية الوجود أن نضع القيد حول أعناقنا و نسلمه لرغباتنا.و ما الصورة التي قد نمنحها لذلك الذي يدفعنا بلا هوادة إلى مضاعفة رغباتنا بلا توق،ألن نصفه بالشيطان!؟ إننا مدفوعون بحكمة الفكر و الواقع أن نفضل على حياة الرغبات بلا حدود،حياة منظمة،و رضية،و قانعة بما يحمله كل يوم لنا،فلنتذكر أن أخذ الشعار التالي:"الحياة إشباع لكل الرغبات" معناه أن نرمي بأنفسنا في حياة كلها معاناة؛ن ما نحتاجه فعلا هو البحث عن فن عيش يبين لنا كيف نجعل من حياتنا حياة منتظمة.
و لكن بما أننا بشر قبل كل شيء،و لسنا نساكا أو زهادا فسنطالب بحياة لا تخلو من ملذات و مباهج،لكن يجب أن يرافق مطلبنا هذا حس القياس،إذ يجب أن نميز بين موقف يدفعنا إلى إشباع الرغبات المشروعة ،و بين موقف يدفعنا إلى إتباع الرغبات اللامشروعة،كما لو أن الأمر يتعلق بمطاردة الإسراف الذي يجعلنا منحرفين سلوكيا.فإذا كان كل البشر يستمتعون بالمطعم و بالمشرب،و بالملذات الجنسية دون قياس يذكر أو واجب،فالبحث و إيجاد الإعتدال في كل شيء خاصية الحكمة؛فحين نسقط في اللاقياس حينها لا يمكن أن يتحقق أي إشباع،و سنواجه البلادة،و التقزز،و القلق المستديم...بالإنغماس أكثر فأكثر في إفراط لا حدود له.فلنتعلم قياس رغباتنا حتى نستطيع اتخاذ موقف سليم منها،و ذلك غير ممكن إلا إذا قمنا بتصنيفها بدقة،و تتبعنا قواعد موجهة لسلوكاتنا اتجاه كل رغبة من الرغبات.
إذن،لا تنخرط كل الرغبات في نفس الخانة،فهناك:
أ/ رغبات طبيعية،نميز فيها بين:
1/ رغبات طبيعية ضرورية كتلك التي تنصب على حاجيات الجسم...و نميز هنا أيضا بين:
--- رغبات طبيعية ضرورية تستهدف راحة الجسم،كانتظام الحياة،و غياب الألم...
--- رغبات طبيعية ضرورية تستهدف الحياة ذاتها،كإشباع الجوع،و العطش،و النوم...
--- رغبات طبيعية ضرورية تستهدف السعادة،كالحكمة،و معرفة الطبيعة،و التأمل...
2/ رغبات طبيعية غير ضرورية كتلك التي تنصب على مباهج التجمل....
ب/ و أخرى مصطنعة و هي بالأساس غير طبيعية،كرغبات لا جدوى منها،إذ لا تناسب سير طبيعتنا،فمن الطبيعي أن نبحث عن صداقات،و أن نمنح الجسم ما هو في حاجة إليه،و من العقيم الإعتقاد بأن الغنى،و السمعة، و الشهرة ضرورات.
الواضح أننا أمام كل رغبة من رغباتنا وجب التساؤل ضمن أي خانة عليَّ أن أضع رغبتي هاته؟ حتى أتمكن من تبني قواعد سلوك واضحة،و القيام بقياس الرغبة و الموقف الممكن اتخاذه إتجاهها،من هنا أصبحت ملزوما بوضع السؤال التالي أما كل رغبة من رغباتي: ما الذي سأجنيه من وراء إشباع هاته الرغبة؟ و ما الذي سيحدث إذا لم أشبعها؟
ففي ما يتعلق بالرغبات التي لا جدوى منها أو العقيمة وجب الفرار منها ما أمكن كما لو أننا نهرب من طاعون،لأنها لا تجلب معها إلا تنمية الخيال الجامح السيء التوجه،و بالتالي لن تولد فينا إلا المعاناة المستمرة؛لهذا يجب كبت*هذا النوع من الرغبات.أما في ما يتعلق بالرغبات الطبيعية،فبالرغم من كونها ضرورية وجب علينا البحث عن خط الإعتدال و التوازن لممارسة الرغبة دون إفراط،فمن حقنا الإستمتاع برغباتنا و الحفاظ على نفعيتها،لكن شريطة الإنصات لصوت الحق فيها حتى لا نلحق أضرار بأجسادنا أو بنفوسنا؛ففي ما يخص هاته الرغبات الطبيعية و الضرورية يجب البحث كيف يمكن تلبيتها بشكل جيد،في إلغاء لكل ألم ممكن؛فأن تنبعث رغباتنا من منطلق حاجياتنا هذا أمر عادي و لا صعوبة تذكر فيه،بالنظر إلى كون هاته الرغبات محدودة بمتطلبات الطبيعة،و من ثمة يسهل علينا تلبيها مع المحافظة على سلامة البدن أساسا لأنه شرط الإشباع الفعلي.
إن فن العيش مع الرغبات يبدو بالنسبة إلينا معقدا بما فيه الكفاية،و ليس من البساطة كما يدعي الحس المشترك؛إذ لا يتعلق الأمر بالإستفادة الجشعة من الحياة عبر الهرع للإرتماء في حضن الملذات المباشرة،فالتوجه نحو رغبة ما هذا يجب أن ننظر إلية بالأساس على أنه إختيار وجب علينا بكل أشكال القياس تحمل مسؤوليته.------------------------------------------------------------------------------------------------------------
مفاهيم:
- الحساسية/ La sensibilité : قدرة على إدراك الإنطباعات التي مصدرها الجسد أو العالم الخارجي،و هي مرتبطة بكمال و نضج المسالك العصبية.و قد نميز فيها بين حساسية ذات تلقي خارجي،و هي التي تتلقى الإحساسات من المحيط الخارجي؛و بين حساسية ذات تلقي داخلي،إذ تلقى إحساسات مصدرها الجسم كالجوع و العطش...و حساسية ذاتية التلقي قد نصادفها في وضعية الأعضاء،أو في حركاتنا،أو في مواقفنا...لذلك فهي تعتبر أحد دعائم تشكل وعي الذات بذاتها،و بمحيطها،و تفعيل هذا الوعي أيضا.
- أتاركسي/ ataraxie : مفهوم قد نعني به بشكل مباشر السكينة،أي حالة من السكون الروحي،و انعدام القابلية للتأثر؛و الطريق إليها لدى العديد من الفلاسفة - أمثال أبيقور و ديموقريطس و لوكريثيوس - هو معرفة العالم،و التغلب على الخوف،و التحرر من الإنزعاج.