د. جميل حمداوي: " في الطفولة" لعبد المجـــــــيد بن جلــــــون
الكاتب: د. جميل حمداوي
27/02/2007
" في الطفولة" لعبد المجـــــــيد بن جلــــــون أول نص أوطبيوغرافي مغربي
مقدمـــــــــــــة:
من المعلوم أن أول رواية جزائرية هي "غادة أم القرى" لرضا حوحو وقد ظهرت عام 1947م، بينما تعتبر رواية" اعترافات إنسان" لمحمد فريد سيالة التي صدرت سنة 1961م أول عمل روائي ليبي، بيد أن هناك من يذهب بعيدا إلى أن أول نص ليبي هو "مبروكة" لحسين ظافر بن موسى التي طبعت في دمشق سنة 1937م . أما في تونس، فكان أول نص روائي بعنوان" ومن الضحايا" لمحمد العروسي المطوي سنة 1956م. وتعد رواية"الأسماء المتغيرة" لأحمد ولد عبد القادر أول نص روائي موريطاني يصدر سنة 1981 عن دار الباحث للطباعة والنشر والتوزيع ببيروت اللبنانية.
أما في المغرب، فنرصد اختلافا بين الباحثين المغاربة، فهناك من يعتبر عبد المجيد بن جلون أول كاتب روائي بنصه الأطوبيوغرافي" في الطفولة" الذي نشر سنة 1957م، وهناك من يعتبر" دفنا الماضي" لعبد الكريم غلاب الصادرة سنة 1966م أول نص روائي مغربي ، بينما الدكتور حميد لحمداني يرى أن نص"رواد المجهول"لأحمد عبد السلام البقالي أول نص روائي مغربي صدر عن المطبعة العالمية بالقاهرة سنة 1956 م ، وفي المقابل لم يظهر نص " في الطفولة" لعبد المجيد بن جلون إلا في سنة 1957م عن مطبعة الأطلس بالمغرب . ويرى مصطفى يعلى أن رواية" الرحلة المراكشية أو مرآة المساوئ الوقتية" لمحمد بن عبد الله المؤقت أول نص روائي مغربي ظهر سنة 1930 م، أما الدكتور محمد قاسمي فيجعل رواية " طه"لأحمد الحسن السكوري في قمة الترتيب الببليوغرافي، وقد صدرت سنة 1941 م عن مطبعة الفنون المصورة بالعرائش في 25 صفحة.
1- البعد المناصي في الرواية:
وعلى الرغم من هذه الاختلافات البيبليوغرافية في تحديد أول نص روائي مغربي، إلا أننا نعتبر " في الطفولة" لعبد المجيد بن جلون أول نص أوطبيوغرافي (سيرة ذاتية) في المتن الروائي المغرب، وأول نص إبداعي أدبي تمثل قواعد الكتابة السردية كما هو محدد في السيرة الذاتية. و تتميز " في الطفولة" عن باقي السير الذاتية الأخرى أنها سيرة ذهنية كرواية أوراق لعبد الله العروي، بينما سير كل من محمد شكري ( الخبز الحافي، الشطار،...)، والعربي باطما(الألم، الرحيل) سير بيكارسكية شطارية موغلة في الواقعية الانتقادية الساخرة القائمة على الفضح والتمرد وتكسير الطابو المحرم أو المقدس سواء أكان دينيا أم سياسيا وإدانة المجتمع والثورة على أعرافه و قوانينه الطبقية الجائرة. ومن هنا، فسيرة عبد المجيد بن جلون تشبه سيرة " الأيام" لطه حسين وسيرة " حياتي" لأحمد أمين. ويمكن أن نعتبر " في الطفولة " لعبد بن جلون نصا روائيا لكونه يجمع بين التوثيق والتخييل، وبين المتعة الفنية وسرد الحقائق التاريخية. كما أن النص يخضع لكل مقومات الحبكة السردية وخصائص الكتابة الروائية فضلا عن توظيف خاصية التشويق والإمتاع الفني وتطويع السرد لخدمة المضمون والاعتراف الذاتي، ومن ثم يمكن القول: إن في الطفولة كتاب يجمع بين السيرة الذاتية والكتابة الروائية. أما العنوان الخارجي" في الطفولة" فيحمل طابعا ظرفيا يؤشر على المكون الزمني في علاقته بالشخصية المحورية.
وإذا انتقلنا إلى عتبة المؤلف، فعبد المجيد بن جلون من أهم الكتاب المغاربة المبدعين، جمع بين الإبداع والصحافة والعمل الديبلوماسي. ولد في الدار البيضاء سنة 1919 م، رحل به أبوه إلى مانشستر ثم عاد به إلى فاس ليستقر بها نهائيا ويدرس في الكتاب فالابتدائي ثم جامع القرويين . و بعد ذلك ، سينتقل إلى مصر لمتابعة دراساته الجامعية العليا. وقد حصل على الإجازة في الأدب العربي من جامعة القاهرة، وعلى دبلوم المعهد العالي للتحرير والترجمة والصحافة من نفس المدينة.
وقد بدأ النشر منذ عام 1936 م حينما نشر أول مقال له في مجلة(الرسالة المصرية)، كما نشر قصصه الأولى في مجلة (الثقافة المصرية)، ثم سيتابع عبد المجيد بن جلون نشر مقالاته وأعماله في الصحف والمجلات المصرية أثناء إقامته بالقاهرة التي امتدت لثمانية عشر عاما.
وفي العاصمة المصرية، أسس الكاتب مع مجموعة من أصدقائه المناضلين مكتب المغرب العربي سنة 1947 م، وتولى أمانته العامة. وعندما حصل المغرب على استقلاله عاد إلى الوطن ليرأس تحرير جريدة" العلم" ، ثم عمل سفيرا للمغرب في باكستان، وعاد إلى وطنه عام 1961 م ليواصل العمل في وزارة الخارجية دون أن ينقطع عن الكتابة والإبداع والنشر في الجرائد والمجلات. وقد توفي رحمه الله سنة 1981 م.
ومن أعماله البارزة: سيرته الذاتية " في الطفولة" التي نشرها الكاتب في حلقات أسبوعية بمجلة (رسالة المغرب) سنة 1949 م ، ومجموعته القصصية( وادي الدماء)، وهذه مراكش، ومارس استقلالك، وديوانه الشعري (براعم)، و مجموعته القصصية الثانية (لولا الإنسان) ، و كتابه (جولات في مغرب أمس)، و(سلطان مراكش). وكان آخر أعماله المنشورة قبل وفاته قصيدة بعنوان(زورق ينساب) عام 1961م.
2- المحتوى الدلالي والقصصي في سيرة" في الطفولة":
تصور رواية " في الطفولة" حياة كاتب مغربي مشهور هو عبد المجيد بن جلون في مرحلة من مراحل مسار شخصيته، وهي مرحلة الطفولة بكل براءتها وسذاجتها وشقاوتها وأحداثها الفطرية المجبولة ووقائعها البسيطة التي تتردد بين الحذر والتهور، والخوف والمغامرة، وبين الجد والخمول، قبل الانتقال إلى مرحلة مراهقة الشباب ونضج الرجولة و تعقل الكهولة. ويستند الكاتب في ذلك إلى تقنية الاسترجاع والتذكر والاعتراف والتصريح والبوح الذاتي في ذكر الحقائق وتوثيقها واستعراضها مع مزجها بالتخييل الفني والتشويق الأدبي.
هكذا يرصد الكاتب طفولته المبكرة في إنگلترا بمدينة مانشستر مع عائلته الصغرى التي تتكون من الأب والأم والأخت، وكان أبوه تاجرا منفتحا على المجتمع الإنجليزي والمجتمع المغربي. وكان من زوار بيتهم آل باترنوس، الأسرة الواعية المحبوبة الهادئة، والأسر المراكشية الصاخبة التي كانت تزور منزل الكاتب الذي كان يغص بالضجيج والصراخ والضحك المتعالي بسبب الحركية الدائمة في المنزل الذي كان بدوره يحتوي على دورين مطلين على الشارع . وكان الكاتب يرتاح كثيرا لآل باترنوس ولا يرتاح للمراكشيين الذين كانوا يحولون دائما الجد إلى ضحك وهزل.
وسيعرف الكاتب في طفولته معاناة كثيرة وأحداثا درامية كموت الأم ومرض الأخت والاغتراب الذاتي والمكاني وقسوة الطبيعة والإحساس بالوحدة والكآبة. وسينفتح على عالم الدراسة منذ نعومة أظفاره، وسيقبل على المدرسة الإنجليزية الحديثة وسيتكيف مع نظامها ودروسها على الرغم من صعوبة درس النحو وتحذير الأم الشديد لابنها من الإقبال على درس اللاهوت الذي يتنافى مع مبادئ الدين الإسلامي.
ومع مرور الزمن، ستقرر الأسرة العودة إلى المغرب للاستقرار النهائي بمدينة فاس حيث عائلته الكبرى. ولما وصل الكاتب إلى هذه المدينة، لم يستطع التكيف مع جو هذه المدينة وعاداتها وتقاليدها المثيرة. وقد وجد صعوبة في التواصل والتفاهم مع أفراد أسرته وخاصة جده الذي كان دائما يستنكر طريقة لباسه وتصفيف شعره وطريقة كلامه. إذ كان يعد حفيده أجنبيا في كل ملامحه وتصرفاته الطفولية الغريبة. وبالتالي، كان الجد يوبخ أباه على هذه التربية الشائنة التي لاتمت بصلة إلى التربية الإسلامية الصحيحة. وعلى الرغم من قسوة الجد، فقد كان يكن كل الحب لهذا الطفل الجديد ويقدره ويلاعبه ويقربه إليه بعطف وحنان وينصت إليه كثيرا. وبعد فترة من الزمن، سيتأقلم الكاتب مع الأوضاع الجديدة، وسيندمج مع أفراد الأسرة وعائلته الجديدة ومع أطفال الحي وأبناء المدينة.
ومن أهم المآسي التي سيتعرض لها الكاتب وفاة معظم أحبابه من هذه الأسرة الجديدة التي كانت تجتمع في دار كبيرة واحدة كوفاة أخته وزوجة عمه وجده وما أصاب أباه من إفلاس مادي في تجارته. كل هذا سيؤثر على حالته النفسية وصحته التي أوشكت في كثير من الأحيان أن تودي به إلى الموت. وقد تغيرت به الظروف عما ألفه في مانشستر فبدأ يستغرب من هذا العالم الجديد القريب من البداوة والجهل والتخلف . ووجد صعوبة في تعلم اللغة العربية وسيكون الكُتاب ملاذه للتخلص من هذه العقدة النفسية التي أزمته ، وخاصة أن جده كان يعاتب أباه دائما على ما آل إليه الولد الذي لا يعرف لغة دينه وأجداده ولا يفهم شيئا مما يقال داخل الدار ولا يستطيع أن يتكلم ولا أن يجيب كالصخرة الصماء. وقد قرر الولد أن يتحدى هذا الإشكال الصعب، فدخل الكُتاب واستطاع أن يتمكن من اللغة ونحوها بعد أن تدرج في مستويات التعليم حتى ولج جامع القرويين ، وحقق في العلم شأوا كبيرا و تمكن من ناصية اللغة العربية وآدابها، وإن كان قد ألفى مشقة كبيرة في تعلم المواد الشرعية وعلوم الدين.
وقد أظهر الكاتب تفوقه الكبير عندما نشر مقالا في جريدة مشرقية عن أدباء المغرب، فبدأ شيوخ جامع القرويين ومثقفوه يطالبونه بالكتابة عن إبداعاتهم و التعريف بأعمالهم وذكر مكانتهم في الأدب المغربي ، بينما يعيب عليه الآخرون أنه تجاهلهم ولم يشر إلى أسمائهم في مقاله الأدبي النقدي القيم. وبعد ذلك، سيصبح الفتى كاتبا معروفا ذائع الصيت، له شهرة كبيرة في مجال الكتابة والنشر.
وسيقرر الكاتب السفر إلى مصر على غرار أصدقائه كعبد الكريم بن ثابت وعبد الكريم غلاب لاستكمال الدراسات الجامعية العليا في قسم الآداب والصحافة بعد حصوله على جواز السفر وعبوره لمنطقة الحدود المغربية الجزائرية بعد أن تخلص من كتاباته الوطنية، ولاسيما قصيدته الشعرية الوطنية التي لو وصل إليها شرطي الحدود لكانت الأمور أكثر تعقيدا ولأثرت على مستقبله الدراسي جملة وتفصيلا. وتنتهي طفولته بوصوله إلى القاهرة لتكون آخر محطة ضمن طفولته التي عرفت مسارات عدة تجمع بين الألم والأمل وبين الفرح والحزن. ويقول الكاتب معلقا على طفولته في آخر فصل من فصول الكتاب:" وبعد، فإن قصة طفولتي يجب أن تقف هنا، وإن امتدادها هذا نفسه فيه كثير من التجاوز، ولكن لم يكن من اللائق وقف الحديث قبل انتهاء مرحلة، وقد انتهت المرحلة التي أتحدث عنها بسفري إلى مصر، ولذلك فإن من المناسب أن أمسك ، فإن عالما ثالثا قد امتد أمامي لا أستطيع أن أزعم فيه أني كنت طفلا.".
إذاً، يستعرض النص سيرة الكاتب الطفولية في مانشستر حتى ذهابه إلى مصر لمتابعة دراساته الجامعية مرورا بفاس دار الكبيرة وجامع القرويين. ويعني هذا أن الكاتب يركز على بيئتين متناقضتين حضاريا وثقافيا: بيئة إنجلترا وبيئة المغرب. كما تتسم البيئتان بقيم متعارضة تتمثل في ثنائية الأصالة والمعاصرة، وثنائية التقدم والتخلف، وثنائية التغريب والتأصيل، وثنائية المادة والروح، وثنائية التفسخ الحضاري في مقابل الاعتزاز بالهوية والدين والتشبث بالوطن. وبذلك تذكرنا الرواية برواية "الأيام" لطه حسين و"عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم و"موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح و"الحي اللاتيني" لسهيل إدريس...
وتعكس هذه السيرة الذاتية بصدق وتخييل فني حالة إنجلترا في بداية القرن العشرين وما تعرفه الإمبراطورية من غطرسة واستبداد إمبريالي، و ما تعيشه مانشستر من قسوة في أجواء الطبيعة وما تنثره من سواد وحزن يؤثر ذلك بشدة سلبا على نفسيات السكان الذين يميلون إلى الوحدة والعزلة والانزواء عن الآخرين وميلهم الكبير إلى الهدوء والصمت المتواصل. كما تنقل لنا الأجواء الاستعمارية التي يعيش فيها المغرب الذي كان يتخبط في الكثير من الأزمات والمشاكل المستعصية والأمراض المتفشية على جميع الأصعدة والمستويات، و يعاني بالخصوص من الفقر والجوع والجهل والتخلف والانحطاط والاستغلال الاستعماري في جميع القطاعات ؛ مما كان يدفع الطبقات الاجتماعية المتفاوتة إلى الصراع ضد الأجنبي المحتل وخوض النضال ضده. وكان المثقفون هم المناضلون الحقيقيون الذين كانوا يقفون في وجه العدو المعتدي ويحرضون الشعب على الاتحاد والاستعداد لمواجهته والصد له بالنفس والنفيس. كما يؤشر التعليم المغربي باختلافه اللغوي في تلك الفترة على وجود منظومتين معاكستين: المنظومة الفركفونية المتقدمة تقنيا وعلميا،والمنظومة الشرعية التقليدية المتخلفة هيكليا ومنهجيا.
وإذا تأملنا بنية الأحداث القصصية سنجد الحبكة السردية تنبني على البداية والعقدة والصراع والحل والنهاية في إطار الثلاثية المنطقية: التوازن واللاتوازن والتوازن. وتتمثل البداية في الاستهلال الذي يستند إلى المنظور الفضائي الزمكاني و تقديم الشخصيات التي ستكون محور القصة على غرار الرواية الواقعية. أي إن الكاتب استهل روايته بتقديم الزمان ومكان الأحداث والشخوص الرئيسية في الرواية لينتقل بعد ذلك إلى تحديد العقدة التي تتشخص في معاناة الكاتب من الاغتراب الذاتي والمكاني والانفصام الحضاري وتناقض البيئتين التي عاش فيهما الكاتب وتأثيرهما السلبي على نفسيته الرقيقة وصحته الضعيفة، ناهيك عما رآه من مشاكل واجهت أفراد أسرته كموت أمه وأخته وجده وزوجة عمه وإفلاس أبيه ومرضه العضال الذي أوشك أن يؤدي به إلى التهلكة دون أن ننسى ما لقيه الطفل من صعوبات في التأقلم مع البيئة المغربية، وما عرفه من مصاعب في التعلم واكتساب اللغة العربية ونحوها، وما عاناه من جراء غطرسة المستعمر وما كابده من قسوة الطبيعة خاصة في مانشستر. أما الصراع الدرامي في الرواية فيتجسد في مواجهة الذات لمجموعة من العوائق والإحباطات وتجاوز الواقع الذاتي و التكيف مع الواقع الموضوعي و تحقيق الفوز في التواصل مع فضاءين مختلفين ومتناقضين حضاريا وثقافيا. أما حل هذه الحبكة السردية فيكمن في الانتصار وتحدي العوائق الطبيعية والاجتماعية والسياسية والتربوية ليظفر في نهاية الأمر بجواز السفر للانتقال إلى القاهرة لمتابعة دراساته الجامعية وتحقيق ماكان يطمح إليه في مجال الكتابة والإبداع في المغرب وخارجه.
وقد وظف الكاتب شخصيات متنوعة في نصه ، فهناك شخصيات تنتمي إلى وحدة الأسرة كالأب والأم والأخت ، وشخصيات تنتمي إلى وحدة العائلة الكبرى كالجد والجدة والعم وزوجة العم و الزوار المراكشيين،.....وشخصيات تنتمي إلى وحدة الفكر والأدب كعبد الكريم غلاب وعبد الكريم بن ثابت، وشخصيات تنتمي إلى وحدة التعليم والتربية كالمعلمين والأساتذة والمدير والفقهاء.....وشخصيات أجنبية مثل : أسرة آل باترنوس ومسز شالمداين.... ولكن ما يلاحظ على هذه الشخصيات أنها شخصيات تاريخية وواقعية عاشت فعلا في الواقع الموضوعي كشخصيات الفكر والفن والأدب، بينما هناك شخصيات خاضعة للتخييل والتشويق الفني وأغلبها جاءت نكرة بدون ذكر أسمائها الحقيقية . ويعني هذا أن شخصيات الرواية إما أنها شخصيات تاريخية واقعية يقصد بها الكاتب التوثيق والتأريخ والاستشهاد الموضوعي وإما أنها شخصيات فنية تخييلية عابرة يستعرضها الكاتب من أجل أهداف فنية ليس إلا. ولكن يبقى الكاتب هو الشخصية الرئيسية المحورية النامية داخل مسار النص الروائي لدينامكيتها وانفتاحها على الأحداث إيجابا وسلبا.
و يستحضر الكاتب في نصه الأطوبيوغرافي فضائين متقابلين: فضاء إنگلترا وفضاء المغرب، وبتعبير آخر يذكر فضاء مانشستر وفضاء فاس، وهنا نسجل جدلية الداخل والخارج، وجدلية الانفتاح والانغلاق، فضلا عن جدلية التغريب والتأصيل، كما يدل الفضاءان على الصراع الحضاري والثقافي والديني. كما تتقابل الأمكنة العامة والخاصة للإحالة على مجموعة من القيم والسمات المتقابلة كالتطور والتخلف، والعلم والجهل، والمادة والروح، والبداوة والحضارة...
ومن حيث التأشير الزمني ، تعود الرواية إلى فترة مابعد الحرب العالمية الأولى، حيث ينتقل الكاتب مكانيا في إطار صيرورة الهجرة والاغتراب من الدار البيضاء إلى مانشستر، فالعودة إلى الدار البيضاء ثم الاستقرار في مدينة فاس:" قيل إنني ولدت في مدينة الدار البيضاء ثم قضيت في تلك المدينة بضعة أشهر، ثم ركبت البحر بين ذراعي أمي إلى انجلترا، وقد كان ذلك بعد الحرب العالمية الأولى، أي إنني مررت في بلاد حديثة العهد بالحرب، ومع ذلك لا أذكر منها شيئا يدل على أنني كنت انتفع بالنظر أو التمييز".
وتمتد الرواية – إذاً- من فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى وتنتهي عند سنة 1937م إبان سفر الكاتب إلى مصر ودخول المغرب في مرحلة المفاوضات مع المستعمر الأجنبي ومطالبته بالإصلاحات السياسية والاجتماعية والإدارية والاقتصادية والتربوية." بيد أن الأيام لا تقيم وزنا لما يشعر به من يعيشون فيها من أبنائها، ففي تلك الأيام الباردة من شتاء سنة 1937 غادرت منزلها إلى منزل زوجها، وغادرت أنا منزل والدي لأعبر البحر الأبيض إلى مصر، وتدل كل البوادر على أن تلك الأيام كانت آخر ما جمع بيني وبينها".
ومن حيث الوصف، عمد الكاتب إلى تقنية الروائيين الواقعيين والطبيعيين في الإسهاب والتطويل والإطناب في الوصف والتصوير والتشخيص ، إذ خصص الكاتب صفحات طويلة لوصف الشخوص والأمكنة والأشياء والوسائل والطبيعة مستعملا في ذلك الأوصاف والنعوت والاستعارات والتشابيه والأحوال والصور البلاغية والتشكيل الفني البصري والذهني. ومن الأمكنة التي وصفها الكاتب منزل أسرته في مانشستر والدار الكبيرة في فاس والكُتاب ومدرسته الإنجليزية. كما التقط أثناء وصفه للوسائل الاختراع الجديد وهو القطار الحديدي الذي كان يكرهه الكاتب بسبب هيئته المخيفة وبشاعته المتقززة بالرعب وضجيجه المقيت. أما الشخصيات المرصودة بالوصف فهي كثيرة كأسرة آل باترنوس، وأساتذته الذين كانوا يدرسونه بفاس سواء أكان ذلك داخل الكُتاب أم في جامع القرويين أم في المدارس العصرية الفرنسية علاوة عن وصفه لجده وأفراد عائلته الصغيرة والكبيرة. ومن أغراض الوصف في روايته التصوير وتأطير الأحداث وتفسيرها مع تحديد سياقها الزمكاني ثم التزيين أوالتقبيح أو تبيان مكانة وهيئة الموصوف وبيان حاله.
3- الخطاب السردي في الرواية:
تقوم هذه الرواية التي تتخذ شكلا أوطبيوغرافيا على فن السيرة وخاصية التذويت وسمة التذكر والاسترجاع كما تنبني على المنظور السردي الداخلي ، أي تستعمل الرؤية مع أو التبئير الداخلي من خلال تشغيل ضمير المتكلم . وهنا يتساوي الراوي والشخصية الرئيسية في المعرفة . ويعني هذا أن السارد يعرف في نفس الوقت ما يعرفه البطل الرئيس في الرواية. ومن هنا تتخذ الرواية طابعا منولوجيا قائما على المناجاة والحوار الداخلي والسرد الذاتي والمشاركة الداخلية في إنجاز الأحداث. والمقصود بهذه المشاركة أن الراوي يشارك الشخصية المحورية في إنجاز الوظائف السردية الأساسية و تحقيقها على مستوى البرنامج السردي سطحا وعمقا.
ومن أهم مميزات هذا المنظور أن السارد ينقل الأحداث من زاوية شخصية ذاتية ويبئر الشخصيات الأخرى عبر منظوره الخاص بواسطة التعليق والتقويم وإصدار الأحكام. ومن هنا تتحول الرؤية الشخصية الداخلية الذاتية إلى رؤى موضوعية كاستخدام الرؤية من الخلف أو الرؤية من الخارج. ومفهوم هذا أن الكاتب قد يشغل ضمير المتكلم في نقل الأحداث، ثم يسخر هذا الضمير ليستعين بالضمائر الأخرى لنقل ما تعرفه الشخصيات الأخرى.
ومن الوظائف التي يعرف بها السارد داخل هذه الرواية مهمة السرد والتعبير و التأثير والتبليغ و الأدلجة والتشويق الفني والتصوير الأسلوبي والتوثيق الموضوعي والتخييل.
وتعتمد الرواية أيضا على الترتيب الزمني الكرونولوجي انطلاقا من الحاضر( الطفولة في مانشستر) نحو المستقبل( السفر حيال القاهرة)، والدليل على هذا الترتيب الزمني التعاقبي انطلاق الرواية من فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى إلى سفر الكاتب إلى مصر سنة 1937م . كما أن الأحداث تسير منطقيا على غرار التعاقب الزمني. لكن يلاحظ أن الرواية عبارة عن وحدات سردية وقصصية مستقلة بنفسها مفككة دلاليا وهيكليا ؛ مما جعل بنية التسلسل الحدثي المنطقي تخضع لنوع من الهلهلة السببية نظرا لانعدام الاتساق والانسجام والنسيج الترابطي .
كما أن إيقاع الرواية يخضع تارة للتسريع الناتج عن الحذف الزمني والتلخيص الحدثي، ومرة أخرى يخضع الإيقاع للبطء الناتج عن الوقفات الوصفية الكثيرة والمشاهد الدرامية.
وعلى الرغم من التعاقبية الزمنية على مستوى تطور إيقاع الرواية فإن النص في الحقيقة يقوم على الاسترجاع والاستذكار أو مايسمى بفلاش باك مع تشغيل الزمن الهابط الذي ينطلق من الحاضر نحو الماضي، وهذا على مستوى التزمين الخارجي وليس على مستوى التزمين الداخلي لكيلا نسقط في تناقض مثير للمفارقة والجدل.
ويهيمن على النص أسلوب السرد أو الأسلوب غير المباشر؛ لأن الكاتب يستعرض الأحداث بطريقة كلاسيكية منولوجية، ويستقرىء التاريخ والذاكرة الاسترجاعية، لذا يقل الحوار والمنولوج مع غياب البوليفونية ودمقرطة السرد . أما اللغة فهي لغة واضحة بسيطة موحية ومعبرة تتسم بالواقعية ونبض الحياة وخاصية التوثيق والتصوير الشاعري تارة والتشخيص الواقعي التسجيلي تارة أخرى. وتتعاقب في الرواية الجمل البسيطة والمركبة إيجازا وإسهابا، وتكثر الجمل الفعلية الدالة على الحركية والتوتر الدرامي الذي يتجسد في دينامية الأفعال التي كانت تتأرجح بين الأفعال الماضية والمضارعة التي تؤشر بدورها على ثنائية الماضي والحاضر.
هذا، وتحيل الرواية على واقع المغرب في ظل الاستعمار الأجنبي والحماية الدولية الغربية ، وما كان يكابده المغرب من جوع وفقر وجهل وتخلف و وتصوير ما كان يعرفه من تخلف و ضياع وتقهقر حضاري وثقافي وتراجع في بنيته التعليمية والتربوية. وتشير الرواية كذلك إلى فترة الحرب العالمية الأولى والأزمة الاقتصادية العالمية وما سببته من إفلاس اقتصادي ومالي وظهور الحركة الوطنية وطبقة المثقفين المتنورين الذين كانوا يحملون مشعل النضال والتنوير والصمود في وجه المعتدي المتغطرس.
خلاصات و استنتاجات:
نستشف مما سلف ذكره، أن نص " في الطفولة" لعبد المجيد بن جلون سيرة ذاتية، وأول خطاب أوطوبيوغرافي في مسار الرواية المغربية ، كما أنه نص روائي كلاسيكي يسترجع الكاتب فيه طفولته التي قضاها في صراع مع الذات والواقع مع التأرجح بين الإخفاق والانتصار مشغلا خطاب البوح والاعتراف والاستذكار واسترجاع الماضي لمعرفة الحاضر ضمن رؤية سردية داخلية مع التنويع الأسلوبي واللغوي والتفنن في الإيقاع الزمني وتنويع الفضاءات والمشاهد المكانية.